محمد شعير
هو أكثر النقاد اقتراباً من التجارب الفنية الجديدة، حتى إنّ المولعين بالتقسيمات الجيلية يعتبرونه تسعينيّاً، رغم أنه بدأ شاعراً في السبعينيات. يراه بعضهم فوضوياً، ويراه آخرون موسوعياً، إذ يمتلك القدرة على تطبيق المناهج النقدية على كلِّ شيء: من المسلسلات التلفزيونيّة إلى تحليل الخطاب الديني. بين الموسوعية والفوضوية و«الكسل»، يتحرك محمد بدوي متحرراً من مفهوم «الأكاديمية» الضيق. حريّة تظهر في دراساته كما في أسلوب حياته ولباسه الذي يستفز نقّاداً يحرصون على ارتداء ربطات العنق، حتّى إنّ أحد النقاد الكبار قال عنه: «محمد بدوي يمكن أن يكون ناقداً جيداً لو ارتدى بدلة كاملة». يضحك صاحب كتاب «بلاغة الكذب» موضحاً أنّ صاحب العبارة كان يقصد الدعابة... لكن كل دعابة تنطوي دائماً على شيء من الجدّ. أحد أساتذته كان يزجره: «أتدرِّس الطلبة وأنت ترتدي هذه الملابس!». يرى بدوي أن هيئة الأستاذ الجامعي والناقد والمثقف، لا تنفصل عن لغته، ولا تنفصل بالتالي عن أفكاره ورؤاه. ربطات العنق تعبير بصري عن لغة مؤسساتية، تفضّل ما هو فصيح على ما هو دارج، وتفضل المصطلح بقدرته على الهيمنة، والخطاب الأستاذي الذي يوقع القارئ تحت سطوته. كلُّ هذه أشياء تمرد عليها بدوي منذ بدايته، وبداية التمرد كانت على العائلة.
محمد، كان أفشل تلاميذ مدرسته الابتدائية. ظلَّ حتى الثامنة من عمره لا يجيد القراءة والكتابة، ما دفع والده إلى الإشراف على تعليمه. كان الأب أزهرياً، على دراية بأسرار اللغة والشعر والنحو، فأحبّ الصغير الأدب محبّة مشروطة عائلياً بقراءة الكتب الدينية والفقهية. لكنْ «فجأةً خبطني الشعر والفن» كما يقول. بدأ شراء كلّ ما تقع عليه يده من روايات ودواوين شعرية يراها الوالد «فساداً»، ما أدّى إلى حرمانه المصروف. في تلك الفترة، كتب روايته الأولى، وقد تكون الأخيرة. قدّمها إلى نادي القصة لنشرها، وعلى تلك الواقعة ثمَّة شاهدان هما الناقدان حسين حمودة ورمضان بسطاويسي، زميلا الفصل.
عندما أنهى دراسته الثانوية، قرَّر الالتحاق بـ «كلية الآداب» وتحديداً قسم اللغة العربية... فقط كي يصبح شاعراً. انتقل من قريته الريفيّة إلى المدينة الكبيرة القاهرة، وكان اللقاء بأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ويحيى الطاهر عبد الله. ثلاثة أدباء جنوبيّين ربطته بهم صداقة عميقة، رغم فارق السن. «ربما لأنهم صعايدة، وكانوا أقرب إلى معرفة المكان الذي جئت منه». أُعجب بأمل ويحيى، لإصرارهما على «الهامشية الاجتماعية». صقلت الجامعة تجاربه، وامتهن الحياة على «حافة المدينة والريف»، فهو «ريفي يحاول أن يكون مدنياً... ومدني يحاول أن يكون ريفياً».
في تلك الفترة، كان يكتب الشعر الموزون، وينشر في العديد من الدوريات، لكنَّه تمرَّد على الشعر ذات يوم، هجره إلى النقد. بدأ يخطط لاستكمال دراسته الأكاديمة بعد التخرج. «في تلك الفترة، كان السادات قد قرَّر ألا يلتحق أحد من متخرّجي الجامعة المسيّسين بأي وظيفة ذات تأثير مثل الإعلام أو الصحافة أو حتى التدريس. ومن هنا وجدت نفسي أسعى إلى إكمال دراساتي العليا». في تلك الفترة، كان بدوي مهووساً بالشاعر الإنكليزي الشهير ت. س. إليوت: «كان شاعراً وناقداً يحمل دكتوراه في الفلسفة، وعمل مدير بنك، وموظفاً في دار نشر، ولم يشعر في كلّ ذلك بأي تناقض».
كان التحدي الحقيقي في أن يثبت أن الناقد ليس «أديباً فاشلاً»، وأنّ عمله ليس مجرد «عمل أكاديمي جاف وصعب، بل إبداع على إبداع». لهذا يعلن دائماً عدم خضوعه لنظرية أو مدرسة. النظرية عنده مجرد أداة، وليست إشارة تحدد الطريق من دون أن تقود إليه. نيتشه ووفوكو وبارت ودريدا... جميعهم حاضرون في ثنايا دراساته.
النقد لديه هنا أقرب إلى مفهوم «اللعب» في الفنّ، وهذا ما يقربّه من الإبداع. كتابة أخرى فوق النص المراوغ، تكشف ما سكت عنه، أو قاله ضمناً أو تلميحاً وإشارة. هو يحاول أن يكشف في النصوص التي يخضعها للتفكيك «لعبة الكتابة الإيديولوجية التي تتقنّع بأقنعة، تنهض بدور التمويه على ما يضمره صاحبها، لكنّها تكشف ما ينطوي عليه الخطاب من صدوع وانكسارات». يلعب بدوي إذاً على الصدوع داخل النص أو الخطاب، على «سحر البيان بما هو سحر مزموم يفتن ويحجب ويعمي» أو ما يسميه «خطاب الخداع العقلي أو السم في العسل».
كانت اختيارات بدوي في النقد مثار جدل كبير، اختار لرسالة الماجستير أشعار صلاح عبد الصبور، واعترضت الجامعة «صلاح لا يزال حياً»، ليفاجئ عبد الصبور الجميع بالرحيل، وتوافق الجامعة على تدريسه أكاديمياً. خلال إعداده أطروحة الدكتوراه، عن «الرواية الجديدة في مصر»، وتحديداً رواية جيل الستينيات، لم يكن أيّ ممن سيتناولهم في بحثه قد بلغ الأربعين، فخاض المعركة بمساعدة أستاذَيه عبد المحسن بدر وعبد المنعم تليمة. هكذا، أصبحت دراسته أول أطروحة جامعية تتناول رواية جيل الستينيات في مصر، وكان أيضاً من أصغر الحاصلين على الدكتوراه في الأدب في مصر. «كان عمري 31 عاماً، وقد أعددت رسالتي أثناء عملي في إحدى الجامعات اليمنية، ووجدتني مضطراً إلى الانتهاء منها على وجه السرعة لأن ظروفي كانت صعبة». بعدئذٍ درّس في البحرين عامين، وعاد ليحاضر في آداب القاهرة ثم في «الجامعة الأميركية». معاركه دفاعاً عن ألعابه النقدية، لا تتوقف. عندما أصدر كتابه «بلاغة الكذب»، الذي يحلِّل فيه العديد من النصوص التراثية اعتبره الأساتذة التقليديون إبداعاً لا نقداً. لكن ماذا لو قرأوا كتابه التالي: «لعب الكتابة، لعب السياسة» الذي يخضع فيه العديد من ظواهر الواقع الثقافي المصري للتفكيك.
بخلاف أربعة كتب في النقد وأبحاث أخرى لم تنشر بعد، لديه ديوانا شعر، الأول «تلويحة للنسيان» (1998)، فيما صدر الثاني منذ أيّام بعنوان «الشمعة من طرفيها». فترة طويلة من الغياب الشعري إذاً. «ليست غياباً» يوضح. “الشعر هو الأساس، أكتبه كنوع من الحاجة. هو عالمي الخاص». الشعر هواية لديه، وهو يرفض أن يتحوّل إلى موظف في «دولة الشعر». «أتممت ديواناً قبل سنوات وأعطيته للصديق خيرى شلبي، وكان رئيساً لتحرير مجلة «الشعر»، نشر قصيدة واحدة منه في المجلة، وضاع بقية الديوان وحتى الآن عندما التقيه يخبرني بأنه سيبحث لي عنه».
رحلة من التمرد على التقاليد الراسخة، ربما قرّبت بينه وبين نجيب محفوظ، الذي كان محوراً للعديد من دراسات بدوي النقدية. يسميه «اللاعب الأمر»، وخصّص له كتاباً يصدر قريباً بعنوان «مملكة الله». ربما خاض محفوظ إبداعياً الرحلة نفسها التي يدافع عنها محمد بدوي نقدياً. وصاحب الثلاثيّة هو بالنسبة إليه «صائغ الهوية من منظور ديموقراطي تعدّدي، صنع روزنامة خاصة به ولم يكتب أحد مثله». وربما لن يكتب أحد بعده أيضاً!


5 تواريخ

1955
الولادة في قرية العطف في الجيرة التي تبعد 55 كيلومتراً عن القاهرة

1986
صدرت أطروحته للماجستير بعنوان «الجحيم الأرضي ـــــ دراسة في شعر صلاح عبد الصبور»

1988
أطروحة عن رواية الستينيات، نال على أساسها الدكتوراه وهو في الحادية والثلاثين

1998
ديوانه الأول «تلويحة للنسيان»، صدر على نفقة المؤلّف

2009
ديوانه الثاني «الشمعة من طرفيها» (دار النهضة، بيروت)، وقريباً تصدر دراسة جديدة له في أدب نجيب محفوظ بعنوان «مملكة الله»