strong>بول الأشقر *من الصعب والمعقّد الحديث عن الواقع الإيراني بين الكاريكاتور «المعارض» و«الموالي». حفلة ضخمة جهّزها الطرفان لكي يراها الأميركيون. إلا أن اعتراضات المعارضة والقمع الذي تلاها، حوّلا الحفل إلى أكبر أزمة تمر بها الجمهورية الإسلامية، وصار الآن مطلوب من جانب النظام فكفكة المسرح من خلال سحب الصحافة الدولية، ومن جانب المعارضة تمديده حتى الرمح الأخير. ويحاول الرئيس باراك أوباما ـــــ مشاهد الشرف كما يقال ضيف الشرف ـــــ العبور بين النقاط، بين قيادة ينوي محاورتها، وكانت هي تنوي الرسملة في الحفلة، وبين أكبر جالية إيرانية في العالم، لدرجة أنه يقال في إيران «إن لكل عائلة قريباً مات في الحرب وآخر موجوداً في الولايات المتحدة».
إنّها أكبر أزمة تعيشها الجمهورية الإسلامية منذ عام 1989 على الأقل: بين معسكرين يقود الأول محمود أحمدي نجاد، زعيم تدرّج قبل أن يخرج من السرب وصارت قضيته القيام بـ«ثورة داخل الثورة»، فيما يتجمّع في الثاني، آخر رئيس حكومة وآخر رئيسي جمهورية، وخليفة المرشد الذي لم يعيّن مرشداً، وأهم منظري اليسار واليمين الإيراني.
يستحيل الجزم من البرازيل، بما إذا وقع كان قد تزوير أو لا في الانتخابات الإيرانية. انطباعي الأول أنه لم يحصل.
للتفكير في الموضوع، نورد بعض المعلومات: الانتخابات الرئاسية التي عرفتها الجمهورية الإسلامية يوم الجمعة الماضية هي العاشرة. قبل ذلك، شغل الخميني المنصب مؤقتاً حتى إجراء الاقتراع الأول عام 1980: فاز بني صدر بـ 78% من الأصوات قبل إقالته بعد سنة، ومغادرته البلد. حل محله رجائي (89% من الأصوات) عام 1981 واستُشهد بعد أقل من شهر. الآن يبدأ بيت القصيد: أيضاً عام 1981 فاز خامنئي بـ 95% من الأصوات وجدّد له عام 1985 بـ 85% من الأصوات، وقد خسر نحو 4 ملايين صوت بين الولاية الأولى والثانية. خلفه رفسنجاني عام 1989 بـ 94% من الأصوات وجدد له عام 1993 بـ 62% من الأصوات، وقد خسر بين الولاية الأولى والثانية 5 ملايين صوت. تلاه خاتمي عام 1997 بـ 69% من الأصوات وجدد له عام 2001 بـ 78%. ولكنه لم يخسر ولم يربح أصواتاً لأن ما ربحه بالنسبة المئوية خسره بنسبة المشاركة. كل هذه الانتخابات حُسمت من الدورة الأولى.
فقط عام 2005، لم يحسم الاستحقاق من الدورة الأولى. توزعت الأصوات وحصل الثلاثة الأوائل (رفنسجاني 21 أحمدي نجاد 19 كروبي 17) على نسب متقاربة، ونال الرابع والخامس أكثر من 13 %، والسادس والسابع بين 4 و5%. في الدورة الثانية، فاز نجاد على رفسنجاني بـ 61% من الأصوات.
الجديد الحقيقي في انتخابات الجمعة الماضية هو ارتفاع المشاركة في انتخابات تجديد الولاية. قبل هذه المرة، كانت دائماً المشاركة تتراجع في انتخابات الولاية الثانية. هذا ما يفسر نيله 7 ملايين صوت إضافي بين الدورة الثانية لعام 2005 والدورة الأولى لعام 2009 لأن النسبة (62%) بقيت متقاربة. نسبة المشاركة هذه المرة كانت حقيقة مميزة (نحو 84%) متخطية الرقم القياسي الذي كان قد سجله أول انتخاب لخاتمي (80%).
قد يفسر ارتفاع المشاركة تجنيد المعسكرين وهو ما ضاعفه صخب المناظرات التي رسخت عند الجمهورين أهمية الاستحقاق معطوفة على إمكان الفوز. أضعف مشاركة حصلت في كردستان (63%) وأكثفها في يزد (99%).
وفي تحليل لنتائج المناطق، نال نجاد أرقاماً تراوح بين 46% (أسوأ نتيجة له) و78% (أحسن نتيحة في كرمان وسنان)، فيما حصل موسوي على ما بين 21% (أسوأ نتيجة له) و52% (أحسن نتيجة في سيستان وبالوشستان).
فاز نجاد بصعوبة في أكبر منطقة انتخابية ـــــ طهران ـــــ 52 مقابل 46%، وبالنسبة نفسها تقريباً في حصيلة أصوات آذرباجيان، وسجل نسباً أريح 69 ــ 29 في مناطق خرسان وإصفهان التي تلي طهران بعدد ناخبيها. ولم يفز موسوي إلا بمنطقتين، آذرباجيان الغربية وفي طرف الخريطة المقابل سيستان وبالوشستان على حدود باكستان.
من المؤكّد أن من يعيش في طهران (20% من الجسم الانتخابي) وتحديداً في الأحياء الشمالية منها، لا يستطيع أن يقتنع بالنتائج التي صدرت، وسيعتبرها بصدق خرافية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنها مزوّرة. إذا صحت النتائج، صار علينا التوقف عند إنجاز التجانس الذي حققه نجاد في بلد يتميز تقليدياً بفوارق يفسرها التنوع العرقي: من أصل 30 منطقة، حصل على أكثر من 70% في 13 منطقة، وأكثر من 60% في تسع، وأكثر من 50% في ستّ، وأقل من 50% في منطقتين.
إنجاز كهذا، إذا صحّ، هو معطى أساسي ومميز في الجمهورية الإسلامية وفي خريطتها الانتخابية. وإذا كان نجاد قد فاز في الولاية الأولى مثل فوجيموري (في البيرو عام 1990) أي بالتسلّل كـ«فلتة شوط» في الدورة الأولى قبل أن يكتسح في الثانية، فإنه فاز في الولاية الثانية كما كان يفوز تشافيز قبل سنوات، أولاً بالتأكيد على صفته مرشحاً آتياً من خارج «الإستابليشمنت» السياسي والديني والمالي. صحيح أن النخب المحلية تكرهه (وبعضها يستحي به)، إلا أن كثيرين يتمسكون به أيضاً لهذه الميزات بالذات، لمكان سكنه المتواضع، لنمط لبسه، ولأسلوبه في الكلام ولحربه المعلنة على «فاسدي آخر ثلاثين سنة». وهكذا بنيت أسطورة «ابن الحداد الذي لا يفسَد، والذي لا يكف عن زيارة المناطق»، فنجح في تجسيد التقاطع بين أدلجة أجهزة الرقابة الاجتماعية (من الباسيج، وحدها 12 مليون عضو!) واعتماد سياسات اجتماعية توصل إلى المناطق، وإلى فقرائها تحديداً، حصصاً من موارد النفط. عندئد، لم تعد تؤثر إخفاقاته الاقتصادية ـــــ كل حكومات الجمهورية الإسلامية أخفقت قبله ـــــ بل عطاءاته الاجتماعية التي تميزه عن الباقين.
عندما اتهمه موسوي بـ«الكذب» في أرقامه الاقتصادية في المناظرة بينهما، دافع نجاد عن برامجه الاجتماعية، وجعله يخجل لـ «تواطئه» مع الفساد، وكل الإيرانيين يفهمون أن المقصود رفسنجاني. من جهة أخرى، ومجدداً إذا صحّت النتيجة، فهي ليست سيئة للإصلاحيين. ثلثان بثلث، وأكثر من 20% من الناخبين في جميع المناطق من دون استثناء. صحيح أنها لا تتطابق مع طموحاتهم التي تحوّلت أوهاماً في الأيام الأخيرة، ولم تكن تؤكدها الاستطلاعات الجدية. وليست سيئة، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار تفتّت صفوفهم بعد خروج خاتمي المأساوي من الرئاسة، وإرباك انطلاق الترشيح الإصلاحي ـــــ مثل موسوي بماكينته الانتخابية ـــــ قبل وبعد انسحاب خاتمي وبقاء كروبي في السباق.
إذا صح ما سبق عن أن نجاد غيّر مستوى أداء الدولة في اللعبة الانتخابية خالقاً علاقة مباشرة مع جمهوره، ولو بواسطة أجهزة قمعية (ولد هو للسياسة في رحمها) وبرامج اجتماعية تربط الفقراء به وتميّزه عن الباقين، وإذا صح أيضاً أن المعارضة لـ«نجاد الثاني» بدأت تتلمّس خطاها وقد يكون موسوي لما يمثله من تاريخ يمد جذوره حتى حقبة الخميني مؤهّلاً أكثر من غيره ليحمل راية الأنتي ـــــ نجادية وشقّ طريقها بعد معالجة إشكالية التعاطي مع رفسنجاني، يكون الخاسر الأكبر في الانتخابات هو خامنئي.
لماذا؟ شاءت المفارقة أن التعديل الدستوري الذي قامت به الجمهورية الإسلامية عام 1989 كان لفك تشابك الصلاحيات بين الرئيس (خامنئي آنذاك) ورئيس الوزراء (موسوي آنذاك). وأدى التعديل تبسيطاً إلى إلغاء مركز رئيس الوزراء، وإلى نقل صلاحيات الرئيس إلى المرشد، وصلاحيات رئيس الوزراء إلى الرئيس. وقد عمل موسوي ـــــ الذي لم يتبوأ أي مركز رسمي بعد التعديل الدستوري ـــــ مستشاراً خاصاً لدى الرئيسين رفسنجاني وخاتمي. وكان خامنئي كرئيس قد أعطى المثل الصالح لكيفية خضوع الرئيس لرغبة المرشد آنذاك الخميني، وخصوصاً بعد ما حل ببني صدر. وبعد ذلك، أدّى رفسنجاني (الرجل الأوركسترا في هذه الحقبة، وقد تبقى له مواقع مؤثرة في النومنكلارتورا، مع أنه صار عبئاً انتخابياً) دوراً حاسماً في إيصال خامنئي إلى موقع المرشد، وإلباسه «عباءةً أكبر منه». وما إن وصل هذا الأخير حتى تحالف مع أخصام رفسنجاني للتدليل على أسبقية المرشد على الرئيس. ويمكن تلخيص تلك الأسبقية بالتناقض الدائم والمضبوط بين المرشد والرئيس، إن في حقبتي رفسنجاني أو خاتمي، أو حتى في حقبة نجاد الأولى.
وتقوم آليات هذه الأرجحية عادة عند رجل لا يتميز بذكائه ولا بفقهه بل بشطارة لامتناهية في فهم موازين القوى داخل الإستابليشمنت والتحالف مع أخصام الرئيس ليكون باستمرار، بيضة القبان الحاسمة. وبرع خامنئي دائماً في فن التراجع المؤقت أمام الرئيس قبل محاصرته على المفرق التالي. وعلى سبيل المثال، بقيت التيارات الإصلاحية طوال حقبتي خاتمي، تختلف بعضها مع بعض، وتتأرجح بين استراتيجيتي الاعتماد على رفسنجاني أو الاقتراب من خامنئي.
مهما يكن، ومرة أخيرة إذا صحّت النتائج، يكون انقلاب نجاد الانتخابي قد سمح له بالتفلت من مقتضيات الإستابليشمنت، وبالتالي عطّل مصدر قوة المرشد، وإذا نجح موسوي في دوره في ترسيخ موقعه كـ«معارض أول» (قبله، توكّلي ونوري ورفسنجاني لم يتحوّلوا إلى المعارض الأول بعد خسارتهم الانتخابية، بل تركوا هذا الدور... للمرشد!) يكون خامنئي قد فقد لب دوره الذي يقتضي أن يبقى الأول ـــــ وأحياناً الثاني ـــــ على شرط ألا يكون هناك آخر يؤدّي دور القطب البديل.
بالتأكيد، لا يعني ذلك أن دور خامنئي سيتلاشى بين ليلة وضحاها، ولكنه يعني أنه صار مهدداً مهما كان خياره بأن يصبح ملحقاً، وربما يعني أيضاً أن التعديل الدستوري الذي يعمل به منذ عام 1989 قد فقد الآن وظيفته الانضباطية.
* من أسرة الأخبار