strong>معتصم حمادة *فجأة، وجد الفلسطينيون والعرب أنفسهم أمام الحل السحري لقضية الشرق الأوسط في الشعار الذي أطلقه الرئيس باراك أوباما، وأركان إدارته: «حل الدولتين». أصبح هذا الحل هو محور اهتمام الدوائر السياسية في الشرق الأوسط على اختلاف اتجاهاتها، وصار أساساً للفرز السياسي، بين من هو مع «حل الدولتين»، ومن هو ضده. وأصبح «حل الدولتين» هو الحل الواقعي، ورفض الحل بات سياسة عدمية مفلسة. واكتسب هذا «الحل» أهمية فائقة عندما تبين أيضاً أنه غير مقبول من رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، وازداد بريقاً، عندما تسرب عبر الصحافة العبرية والأميركية أن تل أبيب وواشنطن مقبلتان على التصادم في ما بينهما بسبب خلافاتهما على «حل الدولتين»، وأن الرئيس أوباما أبلغ من يعنيهم الأمر في تل أبيب أنه لا يملك وقتاً يضيعه، وأن على تل أبيب أن تحزم أمرها وأن تدخل المفاوضات مع الفلسطينيين تحت سقف هذا الحل. وقد رأت فيه إدارة البيت الأبيض مصلحة للولايات المتحدة وإسرائيل معاً، لأنه الحل الذي يضع نهاية للصراع التاريخي في الشرق الأوسط.
ما من شك في أن للولايات المتحدة مصلحة في إخماد نيران الحرب في الشرق الأوسط، وخاصة نيران الصراع العربي والفلسطيني ـــــ الإسرائيلي، فقد تبين أنه المدخل الصحيح لإخماد نيران العراق وأفغانستان وباكستان، والمدخل لتطبيع العلاقة بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية، وضمان استقرار هذه المنطقة وأمنها بما تحتويه من مصالح أميركية نفطية واقتصادية واستراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي معاً. لذلك، لا غرابة في أن يرى أوباما في «حل الدولتين» أي في حل الصراع في الشرق الأوسط تحت سقف سياسي معين، هو «الدولتان»، مصلحة للولايات المتحدة ولإسرائيل معاً.
لكن يبقى السؤال: ما هي الوصفة السحرية التي يختصرها «حل الدولتين»؟
للتذكير فقط، فإن «حل الدولتين » ليس مشروعاً خاصاً بإدارة أوباما، بل إن إدارة بوش الابن، هي التي صاغت هذا الحل، وقدمته على أنه الوصفة السحرية للوصول إلى سلام في المنطقة. طرحه بوش بعد أيام على تفجيرات نيويورك وواشنطن، وقبل أشهر من غزو العراق واحتلاله، كما تضمنته خطة «خريطة الطريق» التي كُشف النقاب عنها في نهاية شهر نيسان (أبريل) من عام 2003.
وقد وعد الرئيس بوش بوضع هذا الحل موضع التنفيذ مع نهاية ولايته الأولى، ثم مدد الموعد حتى نهاية عام 2005، وبعدها اعتذر عن أكاذيبه، ومدّد الموعد مرة أخرى حتى نهاية ولايته الثانية (نهاية عام 2008) وعندما زاره الرئيس محمود عباس، مودّعاً، في البيت الأبيض، لم يجد بوش ما يقدمه للفلسطينيين سوى الاعتذار (مرة أخرى) مع «إيمانه العميق» بأن «حل الدولتين» (بما في ذلك شقه الفلسطيني) سيرى النور حتماً مع الأيام المقبلة.
وعد أوباما بدوره بأن الدولة الفلسطينية (أحد شقي هذا الحل) سترى النور قبل نهاية عام 2012، أي قبل انتهاء ولايته الحالية. وفي وعود أوباما ما يشبه وعود بوش. هذا في الشكل. أما في المضمون فيمكن أن نلاحظ:
ــــ أن الحديث يدور عن «حل الدولتين»، علماً بأن المطلوب هو حل القضية الفلسطينية المعلقة منذ أكثر من ستين عاماً. لكن الواضح أن هناك هدفاً من الربط بين «الدولتين»، وهو المقايضة بين قيام دولة فلسطينية، وتأكيد حق إسرائيل في الوجود إلى جانب الاعتراف بها عربياً وإسلامياً، وتطبيع العلاقات معها، بما في ذلك تبادل التمثيل الدبلوماسي، وتنظيم العلاقات الاقتصادية معها.
صحيح أن إسرائيل ستتخلى عبر هذا الحل، عن مشروع إسرائيل الكبرى، لكن الصحيح أيضاً، أن هذا الحل، وكما توقع شمعون بيريز غداة التوقيع على اتفاق أوسلو، سيعيد صياغة الشرق الأوسط، وستستعيض إسرائيل عن حلمها القديم «إسرائيل الكبرى» بدولة إسرائيل المهيمنة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً في المنطقة.
ــــ إن «حل الدولتين» لا يرسم حدود هاتين الدولتين بل يتركها للمفاوضات. ولا يغرينا كثيراً الضغط الأميركي لوقف الاستيطان، بما فيه توسيع المستوطنات لغرض استيعاب الزيادة السكانية. فنحن حتى الآن لم نسمع شيئاً على لسان أوباما وأركانه عن جدار الفصل في الضفة الفلسطينية الذي أخذ يتحول إلى حدود «دولية» بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية، علماً بأنه يبتلع نحو 42% من مساحة الضفة. فضلاً عن ذلك فإن «حل الدولتين» لا يرسم لنا حدود الصلاحيات السيادية للدولة الفلسطينية، علماً بأن كل الحلول السابقة التي منها اشتق «حل الدولتين»، تتحدث عن دولة فلسطينية منزوعة الأنياب (اقتصادياً وسياسياً وليس فقط عسكرياً) تقع تحت وصاية إسرائيلية، أردنية، في عودة إلى صيغة «التقاسم الوظيفي» بين تل أبيب وعمان في حل القضية الفلسطينية ضمن حدود سياسية متفق عليها، لا تصل بالفلسطينيين إلى دولة مستقلة كاملة السيادة.
هنا تطرح بالضرورة مسألة القدس الشرقية المحتلة عام 1967، ويلاحظ، في السياق نفسه، ذلك الصمت العميق لإدارة أوباما بشأن مستقبل هذه المدينة، علماً بأن الإشارات المتوافرة تتحدث عن «حل خلاق» لهذه المسألة، يبقي القدس الشرقية المحتلة تحت السيطرة الإسرائيلية، ويطلق عليها اسم «يروشلايم». أما الأماكن المقدسة فيها، فيمكن أن تخضع لوصاية دولية. أما «القدس» فيمكن أن يطلق على بعض الأحياء العربية المجاورة (أبو ديس وغيرها) لتصبح هي عاصمة الدولة الفلسطينية.
ــــ أن صفاً عريضاً من الإسرائيليين، وخلافاً لنتنياهو، يؤيدون حل الدولتين. من بينهم حزب «كديما»، و«ميرتس»، وبيريز، وحزب العمل الممثل في الحكومة بوزير الحرب إيهود باراك. الأهم من هذا أن الجانب الإسرائيلي المؤيد لحل الدولتين لم يتردد في كشف المضمون الحقيقي لهذا الحل عندما اعتبر إسرائيل وطناً قومياً لليهود، في مقابل أن تكون الدولة الفلسطينية وطناً قومياً للفلسطينيين.
أن تكون إسرائيل وطناً قومياً لليهود، هذا قرار إسرائيلي لا يستطيع العرب أن يمنعوا الدوائر المعنية في تل أبيب من اعتماده (من دون أن يعني هذا أن عليهم أن يعترفوا به، بالطبع) على أن تكون الدولة الفلسطينية وطناً قومياً للفلسطينيين ففي الأمر حل بعيد المدى لكل جوانب القضية الفلسطينية أفصحت عنه زعيمة «كديما»، تسيبي ليفني، يوم كانت في وزارة الخارجية، حيث قالت إن هذا يعني أن الدولة الفلسطينية هي وطن كل الفلسطينيين بمن فيهم اللاجئون، كما رأت في هذا الحل، حلاً لمعضلة تاريخية، كما وصفتها، هي خلاص إسرائيل من الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها. فإما أن يُنقلوا إلى الدولة الفلسطينية (منطقة أم الفحم وجوارها حيث الكثافة السكانية العربية في إسرائيل) في إطار تبادل الأرض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وإما تجريدهم من جنسيتهم الإسرائيلية ومنحهم الجنسية الفلسطينية، واعتبارهم مجرد مقيمين في إسرائيل، غير مواطنين. الملاحظ في هذا السياق أن جزءاً من هذه الرؤية يلتقي مع مواقف أوباما، الذي أفصح عن معارضته لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم في مناطق 48.
في النتيجة، إذا ما حاولنا أن نجري جردة نهائية لطبيعة «حل الدولتين» ومدى تناقضه مع الحقوق الفلسطينية، ومقارنة مع «تناقضه» مع المصلحة الإسرائيلية، فسنكتشف أن التناقض الحقيقي لهذا الحل هو مع الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني كما أقرتها له واعترفت بها الشرعية الدولية، وبالتالي فإن الحديث عن صدام بين إسرائيل والولايات المتحدة ليس إلا ذراً للرماد في العيون. الخطير في الأمر أن بعض الفلسطينيين، والحالة العربية الرسمية يصفقون للسياسة الأميركية، ويعتبرونها طوق إنقاذ لخيار السلام الذي اعتمدته قمة بيروت عام 2002. وواضح أن مثل هذا التصفيق يندرج في إطار التواطؤ مع السياسة الأميركية. والخطر الأكبر، يتمثل لاحقاً، بتقديرنا، أن تتوافق تل أبيب وواشنطن على حدود «حل الدولتين» وأن يبتلع العرب وبعض الفلسطينيين الطعم الأميركي بذريعة أنه الفرصة الأخيرة.
ترى ألا يذكرنا الحديث عن الفرصة الأخيرة، بتلك الأحاديث التي سمعناها، خلال عشرات السنوات، عن فرصة أخيرة، سرعان ما توارت، وتبين فعلاً أنها ليست أخيرة.
* عضو المكتب السياسي
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين