strong>ورد كاسوحة *لسوء الحظ، لم يسلّط كثير من المراقبين الضوء كفاية على الدور الذي لعبته المصالحة السورية ــــ السعودية في «تحديد هوية الفائز» في الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة. وهو دور أساسي ومركزي بخلاف ما يعتقد كثيرون. والدليل على ذلك الطريقة غير المألوفة التي تعاطت بها دمشق مع النتيجة المعلنة لهذه الانتخابات. فبدلاً من التشكيك وتظهير صورة عدم الرضى عما آلت إليه النتائج، بعثت العاصمة السورية بإشارات لافتة ومطمئنة إلى الحلفاء المهزومين والخصوم المنتصرين على حد سواء (يجب عدم التعاطي بجدية كبيرة مع التشكيك الذي ظهر في بعض الصحف السورية الرسمية لأنه لا يعكس حقيقة موقف النظام).
والحال أن هذه الإشارات إنما توحي «بتغير حقيقي» في طريقة مقاربة النظام للديناميات اللبنانية المجاورة. إذ لم نعتد من قبل على هذه الطريقة البعثية «الناعمة» في «تجرّع المرارات» والظهور بمظهر من يراقب سير عملية انتخابية تجري على بعد آلاف الأميال من حدوده (وهذا لا يعني أن سوريا لم تتدخل نهائياً) لا على بعد كيلومترات قليلة من هذه الحدود وفي قلب البلد الذي كانت تطبخ فيه نتائج الانتخابات في دمشق «بالتنسيق» مع عنجر وقريطم والمختارة وعين التينة وبعبدا والضاحية.
والتفسير الذي يمكن إعطاؤه لهذا السلوك البارد، هو عدم الرغبة في ممانعة الترتيب الجديد الذي يعدّ للمنطقة. ترتيب ظهرت ملامحه الأولى في خطاب أوباما الأخير في جامعة القاهرة. ذلك أن الإشارات التي بعث بها الرئيس الأميركي من العاصمة المصرية قد وصلت إلى المعنيين في العواصم العربية «المقرّرة». وأول هذه العواصم المعنية ثنائية دمشق ــــ الرياض. فحنكة أوباما وتمرّس الفريق المحيط به بقضايا المنطقة دفعاه إلى تبني مقاربة «مغرية» تستدرج الخصوم والحلفاء في آن معاً إلى «مساحة مشتركة» لم يكن ممكناً إيجادها في السابق. مساحة أتى عليها إرث جورج بوش الابن بالكامل. ومع أفول حقبة بوش، كان لا بد من إعادة وصل ما انقطع بين القطبين العربيين «المقرّرين» (بعدما همّش إرث السادات دور مصر نهائياً) وإعادة ترسيم «المساحة المشتركة» بينهما. وقد تكفلت رسائل أوباما المعلنة وغير المعلنة بهذا الأمر وكان اللقاء الأول على أرض لبنان بتاريخ 7 حزيران 2009(احفظوا هذا التاريخ جيداً).
وليس من المبالغة في شيء القول إن أوهام «الممانعة» و«الاعتدال» قد تبددت تماماً عقب هذا التاريخ وتركت مكانها لرهط جديد من الأوهام. أوهام بدأ التسويق لها منذ اليوم على يد الفريق الكولونيالي ذاته الذي صنع «انتفاضة الاستقلال» المجيدة!
وكما في لبنان، كذلك في سائر أنحاء المنطقة، بدأت استراتيجية أوباما تتفاعل وتأخذ مداها وتصل إلى أمداء لم يكن ممكناً أن يصلها الحل الأميركي سابقاً.
ومن هذه المناطق إيران التي شهدت أخيراً استفتاءً حقيقياً على خيارين إيرانيين «مختلفين» حيال الاستراتيجية الواجب اتباعها «في مواجهة» المد «الأوبامي» العارم. صحيح أن «الغلبة» قد عقدت في النهاية للخيار الراديكالي الذي يمثّله الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد، إلا أن هذا لن يمنع الإدارة المحافظة في إيران من إجراء مراجعة نقدية حقيقية لسياساتها السابقة. مراجعة شبيهة بتلك التي تجريها أطياف 8 آذار (يجدر بمراجعة المعارضة أن تطال اسمها الآذاري المقيت) في لبنان حالياً.
ومن شأن مراجعات كهذه (أي سيادية وذات جذر وطني) أن تخلق مساحات حقيقية للقاء بين الأطراف الإقليمية المختلفة و«المتنازعة» لا مساحات زائفة كتلك التي تحاول الولايات المتحدة افتعالها بين أطراف لا تجمعهم سوى المصلحة البراغماتية الضيقة. مصلحة لا تكاد تلتئم حتى تنفرط مجدداً عند وقوع أي أزمة جديدة في هذا النظام الإقليمي المعطوب والمهيمن عليه أميركياً.
وعلى ضوء هذا التعريف الضيق لمفهوم «المساحة المشتركة»، يمكن تفسير كل ما يجري في المنطقة من اصطفافات وتموضعات وتمارين على «التسوية»، الغاية منها حتى الآن إعادة تحديد أحجام اللاعبين الأساسيين في المنطقة على قاعدة مغايرة لقاعدة «الممانعة والاعتدال» بعدما فقدت هذه الأخيرة جاذبيتها واستنفدت ذاتها محوراً للتحشيد والاستقطاب.
والتعويل الأميركي على هذه القاعدة المستجدة ليس تعويلاً على الالتقاء بين الطرفين («الممانعة» و«الاعتدال») بقدر ما هو تعويل على تفكيك تحالفاتهما السابقة وإعادة خلط الأوراق من جديد. والتفكيك هنا يطال كلا المعسكرين «المتنازعين» وليس فقط معكسر الممانعة كما يسوق البعض، فإعادة ترتيب الأوراق مشروطة أيضاً بتأهيل عرب «الاعتدال» وإسقاط أوهامهم الأنتي ــــ فارسية وإعادتهم إلى حجمهم الطبيعي. ولا يعود مهمّاً بعد ذلك ما تقوله أقلامهم النفطية من ترّهات («انكسروا وانتصر لبنان مثلاً»!) فهذه الأخيرة مثلها مثل ترّهات صحافة «الممانعة» (الرسمية طبعاً) لا تعبّر حقيقة عن موقف الديكتاتوريات العربية الحاكمة والمطيعة للسيد الأميركي.
فما يجري تداوله من مواقف وتحليلات لا يمت بصلة إلى واقع العملية «التسووية» الجارية حالياً على قدم وساق. وهي عملية واقعة فعلياً بين حدي «التسوية» والصراع (في انتظار تبلور المشهد الإيراني الجديد). لنقل إنها عملية ترتيب شبيهة بتلك التي قام بها بوش الأب عقب حرب الخليج الثانية وإطلاق عجلة «التسوية» في مدريد. مع فارق أساسي يتمثل في تساقط الأوهام التي أشاعتها تلك المرحلة واحداً بعد الآخر، من وهم السلام إلى وهم الازدهار والاقتصاد الحر إلى وهم الهيمنة النيوليبرالية...
والأرجح أن حظوظ نجاح العملية الجديدة لن تكون أفضل من حظوظ سابقاتها في التسعينيات من القرن الماضي، رغم رحيل إدارة بوش ومجيء إدارة جديدة تبدو متخففة إلى حد كبير من الأوهام الخلاصية التي عممها الرئيس السابق على أرجاء المعمورة. صحيح أن الحكم على استراتيجية أوباما «التسووية» لا يزال مبكراً بعض الشيء. إلا أن تمحيصاً أكثر في الأمر قد يثبت عكس ذلك. فقدرة هذه الاستراتيجية على «تذليل العقبات» ستصطدم عاجلاً أم آجلاً بالجدار الأيديولوجي الصلب الذي تمثله السردية الصهيونية وملحقاتها في المنطقة (المعتدلة وغير المعتدلة).
قد يبدو هذا المنطق طارئاً على من يتصدّى لتحليل مجريات الأحداث من موقع «محض يساري»، غير أن «التماهي» أحياناً مع هذا المنطق «التسووي» البائس والعمل على تفكيكه من داخل بنيته الأيديولوجية قد يسهم في فهم أفضل لطبيعة اشتغاله ولقدرته على تطويع المنطقة وإدماج عناصرها المناوئة له في نظامه المهيمن، وإن ارتدت هذه الهيمنة طابعاً «تسووياً» هذه المرّة.
وتقضي التسوية اليوم بإعادة إنتاج الحلف السوري ــــ السعودي ــــ المصري على أسس «جديدة»، بانتظار ما سيفضي إليه المشهد الإيراني الملتبس (سوف نشهد نجاد جديداً هذه المرة). وأولى المهمات الملقاة على عاتق هذا الحلف المفترض (إذا قبلت «سوريا» بهذا الدور المذلّ) تسوية القضية الفلسطينية نهائياً (تسويتها بمعنى تصفيتها) والإتيان نهائياً على قضايا الحل النهائي (القدس والحدود واللاجئين والمياه). فالعرب المتأمركون لم يعودوا يحتملون عبء هذه القضية بعد الآن، وما كان ممكناً احتماله في حقبة بوش الابن (نظراً لنموذجه الفاشي الذي تصعب مجاراته حتى من طرف الأتباع والبيادق) لم يعد ممكناً اليوم بعد وصول إدارة جديدة تتنكب عنا مشكورة عبء هذا الحل وتطوف به في أرجاء العالم لإقناع مختلف «القوى المؤثرة» في الصراع بأحقية حل الدولتين وأولوية خريطة الطريق وتجميد بناء المستوطنات! هذا المنطق المقلوب هو جوهر الحل «الأوبامي».
ويقوم هذا الحلّ على فكرة مركبة وغاية في التعقيد تقول بأن عملية إدماج إسرائيل في محيطها العربي ممكنة وقابلة للتحقيق ولكن شريطة أن تحصل بتدرج وعلى مراحل متعددة، بحيث لا تثير حفيظة العرب والفلسطينيين ولا تدفع بهم إلى ردود أفعال «عدائية». وهذه عملية قد تستغرق وقتاً طويلاً ولكن نتائجها تكاد تكون «مضمونة» لجهة ترويض العرب والفلسطينيين وتمرينهم على فكرة الأسرلة والتطبيع والتسليم بالأمر الواقع. فبعد 60 عاماً على الصراع مع إسرائيل قد يستبد التعب بأكثر المعاندين للحلول الانهزامية ويدفع بهم إلى تبني وجهات نظر مقاربة لتلك التي يطرحها منظرو التسوية بأي ثمن، ما دامت البدائل غارقة في منهجها المقاوم فقط من دون أن تعير القضية الاجتماعية الاقتصادية أي اهتمام يذكر.
وليس صحيحاً على الإطلاق الزعم بأن القضايا العادلة محكومة بالبقاء واستحالة الموت لمجرد أنها عادلة، فهذا منطق ساذج وطوباوي لا يمكن صرفه في معادلات الهيمنة الأميركية ــــ الإسرائيلية على المنطقة.
من هنا الحاجة إلى «بؤر» ممانعة قد لا نتفق بالضرورة مع منهجها الأيديولوجي الصارم والمحافظ (حزب الله، حماس...) لكن الحاجة إليها تبقى ملحة، وخصوصاً في مواجهة مقاربات أميركية معقدة تتوسل القوة الناعمة وتستعيض بها عن ممارسات فجة سابقة لم تفعل شيئاً سوى تأجيل عملية التصفية وتأكيد استحالتها.
والجديد اليوم أن هذه الاستحالة لم تعد ممكنة مع إدارة جديدة تدير صراعاتها الدموية بمنطق القفازات وتحاول ما أمكن احتواء خصومها عبر إدماجهم في منظومات إقليمية لا تصب في مصلحة أمنهم القومي (إذا تحدثنا فقط بمنطق المصالح).
منظومات تحيل إسرائيل متناً والعرب مجرد هوامش لهذا المتن. وإذا كانت الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة قد قالت شيئاً، فإن «نظيرتها» الإيرانية قد قالت عكسه، وهذا أمر محمود لأن فضيلة التغيير في إيران قد تستحيل وبالاً على المنطقة إذا ما صارت مدخلاً إلى الهيمنة المطلقة على أمننا ونفطنا ومقدراتنا وما بقي لنا... من فلسطين.
* كاتب سوري