ستّ نساء من بدو حوش العرب في البقاع، اخترن تراثاً من زمن الآباء والأجداد كان قد اندثر مع الأيام الغابرة، فأظهرنه بحلة وألوان جديدة حصدت الإعجاب والتقدير، وحتى الدعوات المتتالية لتلبية نداء عدد من المعارض في لبنان وفرنسا
البقاع ــ رامح حمية
منذ شهرين فقط، وبخطوات ثابتة وجرأة تحمل بين ثناياها القدرة على التحدّي والنجاح في إعادة إحياء تراث كان قد اندثر منذ ربع قرن، أقدمت ستّ نساء من بدو حوش العرب في البقاع على البدء بمشروع أطلقن عليه اسم «نوف»، ينطوي على خياطة وتطريز أغطية للوسائد التي تستخدم في غرف الجلوس والضيافة، سواء الشرقية منها أو الغربية. ولعلّ اللافت أن النسوة استطعن إنجاز ما يقارب الأربعين وسادة تراثية بأشكال مختلفة وألوان زاهية، حتى أن عدداً من أصحاب المعارض في بيروت طلبوا عرض المجموعة بأكملها، فيما الفرصة الأهم كانت بعرض المجموعة في أحد المعارض الفرنسية.
صاحبة الفكرة حمرا أبو عيد أكدت لـ«الأخبار» أن الهدف الأساسي من الخطوة ينطوي على شقّين أساسيّين، أولهما توفير عمل لعدد من النسوة اللاتي لا يستطعن العمل في الزراعة في السهل وتأمين مورد رزق لهن، وثانيهما إحياء التراث البدوي الذي اندثر واختفى ذكره ووجوده منذ أكثر من عشرين سنة، وبالتالي السعي وراء عمل يختص به العرب ولا يمكن أحداً القيام به إلا العرب. وتشير أبو عيد إلى أن خياطة وتطريز «المخدات» كانت من متطلبات كل منزل عند العرب بالنظر إلى حاجة النسوة إلى مخدات وأغطية، فكن يستعملن الأقمشة الباقية لديهن لصناعتها بأشكال مختلفة لمنازلهن فقط، دون عرضها وتسويقها، «لكن مع مرور الزمن باتت هذه الأمور تعتبر قديمة، وخاصة مع ظهور النمط الخليجي واللون الواحد، الأمر الذي أدى إلى ترك هذه الأعمال». الفكرة طرحتها «أم حسين» على خمس نساء في بلدتها حوش العرب البقاعية حيث لاقت استحساناً وقبولاً، ليبدأن بعدها مرحلة التحضير التي واجهن فيها مشكلة تأمين القماش من نوعية «بوبلين» (قماش يتميز بأنه من القطن وخال من خيوط النايلون، وألوانه «ما بتحل»، أي لا تنتقل من لون إلى آخر). وتقول حمرا: «لقد فتّشنا معظم الأسواق اللبنانية والسورية، ولم نتمكن إلا من باب الصدفة من العثور عليه في أحد المحال في برج حمود في بيروت وبكل الألوان، لقد تعجب صاحب المحل من طلب نوعية قماش لم تعد مرغوبة منذ زمن بعيد».
سبيته أبو عيد (32 عاماً)، وهي المصمّمة والمسؤولة عن قص الأقمشة والرسومات المطلوبة لمشروع «نوف»، رأت أن «الفكرة رائعة، فنحن نحيي تراثاً نُسي ونطوّره، وذلك على الرغم من كونه متعباً جداً لما ينطوي على أعمال ينبغي القيام بها بالطرق القديمة. فالتصاميم ليست موجودة على الكمبيوتر ولا أرسمها على الورق، بل أعمد إلى رسمها على أوراق الجرائد ومن ثم قصّها بالمقص اليدوي لا على الليزر، فيما أعمال الخياطة والتطريز من اختصاص بقية النسوة»، مشيرةً إلى أن قبولها أتى مشروطاً «بالاستمرار بالعمل حتى النهاية من جهة، وبإظهار الفن البدوي بأبهى صوره فناً راقياً ومميزاً يمكنه المنافسة في الأسواق اللبنانية والعربية». وتضيف سبيتة أنها تستوحي الأشكال والتصاميم من الحياة والطبيعة، موضحةً أنّها تعلّمت ذلك من والدتها وهي بعمر ثماني سنوات. بدورها، عليا طنوسي (45 عاماً)، وبينما كانت تخيط إحدى أغطية المخدّات، أكّدت أنّ «نوف تعتبر من الأعمال التي ينفردن بتقديمها بالشكل المتطور»، وخاصةً أن «المشروع يُعدّ بالنسبة لنا كبطاقة هوية أو بطاقة تعريف كعرب، سواء في لبنان أو الدول العربية والأجنبية، فنحن وإن كنا نعمل في أوقات فراغنا لكننا نعمل بجهد وإتقان لأن الناس ستتعرف علينا من خلالها». فحتى أقاربهم في سوريا لا يعرفون كيفية صنع هذه الأغطية بالطريقة المبتكرة التي ينفردن بها، فهذه الطريقة في القص والألوان، بحسب عليا، «خلقت هون بحوش العرب وما زالت هون».
طنوسي وهي من عرب أبو عيد أيضاً، لم تنف أنها انضمت إلى النسوة الأخريات من أجل تأمين مردود مادي خاص بها يشعرها بعدم الحاجة لأحد، وخصوصاً أنّ زوجها لا يسمح لها بالعمل في السهل وأمور الزراعة المتعبة.
من جهتها، مريم العيداوي (42 عاماً)، وهي إحدى المشاركات في المشروع التي توكل إليها أمور الخياطة، تؤكد أنها تعمل للمشروع عند فراغها من الأعمال المنزلية، لأنه يتطلب مجهوداً جسدياً وتركيزاً مضاعفاً بالنظر إلى طريقة الدمج بين الأقمشة وبروز الخيط في أماكن متعددة، فقد يسبب لك الخطأ بإعادة «فرطها» والبدء بالعمل فيها من جديد. خطوة «نوف» والنساء الستّ في حوش العرب كُتب لها النجاح بسرعة قياسية. وقد عكست ذلك نظرة الإعجاب والتقدير لهذا الفن التراثي القديم، وللطلبات المتزايدة عليه. إلا أن الخطوة الأهم تبقى في مدى قدرة الدولة على احتضان خطوات كهذه تتمتع بالصدى التراثي الذي يلقى رواجاً عند المواطن اللبناني والسياح. فهل ستعترف الدولة اللبنانية بوجود أعمال فنية تراثية يقوم بها أبناؤها فتعمد إلى دعمها وحمايتها؟