سابقة لا مثيل لها في تاريخ الدولة اللبنانية. مبدأ جديد تطرحه الحكومة قبل رحيلها وهو: طمر الآثار. طمر موقع أثريّ تصل مساحته إلى 175.000 متر مربع، إنها مدينة أرتوزيا الرومانية والبيزنطية التي تقع تحت منشآت مخيم نهر البارد القديم. مدينة كان لها من العزّ والجاه ما قد ينافس صور، لكنّ الحكومة اللبنانية أصدرت قراراً ـــ غير قانوني ــ بطمرها من دون الكشف عن معالمها
جوان فرشخ بجالي
عقد نهار الأربعاء الفائت اجتماع مغلق في مكتب رئيس مجلس الوزراء تقرّر خلاله تنفيذ قرار مجلس الوزراء الصادر في 30 نيسان 2009 والقاضي «بطمر الآثار» في مخيّم البارد. هي المرة الأولى في تاريخ الدولة اللبنانية (حتى خلال فترة الانتداب) التي يقرّ فيها طمر موقع أثري تزيد مساحته على 175.000 متر مربع. فالدولة اللبنانية التي كانت تحاول دائماً، خارج إطار وسط بيروت التجاري، المحافظة على الآثار وخاصة التلال الأثرية عبر استملاكها للأراضي، قررت فجأة التغاضي عن موضوع آثار مدينة رومانية ـــــ بيزنطية بضخامة مدينة صور، «والمحافظة عليها للأجيال المقبلة» بطمرها. قرار «طمر الآثار» كان قد أقرّ في جلسة لمجلس الوزراء عقدت في السرايا الكبيرة، في نهاية شهر نيسان الماضي، مع العلم بأن موضوع آثار نهر البارد طرح من خارج جدول الأعمال. وجاء نص القرار على الشكل الآتي: «الطلب إلى وزارة الثقافة ـــــ المديرية العامة للآثار الإشراف على عملية طمر الآثار في الموقع المنوي إعادة البناء فيه في مخيم نهر البارد وفقاً للمعايير المعتمدة تقنياً وفنياً وذلك قبل مباشرة البناء فوقها».
تبيّن أن الموقع الأثري سيطمر بالتراب إلى علو متر تماماً فوق أنقاض الأبنية التي لم ترفع بعد. بعد ذلك سيتم بناء رقعات من الباطون بسماكة 30 إلى 50 سنتيمتراً تشيّد فوقها الأبنية الحديثة. ميزانية طمر الآثار حددت بـ5 ملايين دولار أميركي! وسيباشر بالأعمال لتسهيل عملية تمويل إعادة بناء المخيم، «من دون عقبات أثرية»، كما قال أحد المسؤولين عن الملف.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومة اللبنانية قد استملكت العقارات داخل مخيم نهر البارد القديم (أي الذي تعرض للهدم خلال الأعمال العسكرية)، لكن المنطقة المحاطة به والمعروفة «بالمخيم الجديد» تمتد على مساحة تصل إلى 450000 متر مربع، قد بيعت فيها عقارات مبنية وغير مبنية لفلسطينيين لا يملكون فيها صكوك ملكية بسبب القوانين اللبنانية، ولكنهم يحصلون على أوراق مصدّقة لدى الكتّاب العدل، تثبت أنهم دفعوا ثمن الأرض. وبما أن الحكومة كانت تسعى بكل الطرق لتفادي نشر هذه المعلومات أتى السعر بردم الموقع الأثري، علماً بأن المخيم الجديد يحتوي على نقاط خضراء، يمكن بناء المخيم فوقها وترك التل الأثري!
فكرة «إزاحة» المخيم عن التل الأثري طرحها الوزير عصام أبوجمرا خلال جلسة مجلس الوزراء ما قبل الأخيرة والتي انعقدت في بعبدا. ويقول الوزير إنه قدّم شخصياً تقريراً علمياً مزوّداً بالصور إلى رئاسة المجلس ورئاسة الجمهورية، طلب فيه التراجع عن القرار السابق وعدم طمر موقع أثري بهذه الأهمية وهذا القدم. «ولكن لم يوافق على رأيي ولم يعمل به، وخاصة أنني كنت قد طرحت مبدأ «إزاحة» المخيم من مكانه، وبناءه في أرض لا تحوي آثاراً في باطنها». وكانت «الأخبار» قد انفردت بنشر مقالة حول أهمية هذا التل الأثرية (راجع الأخبار في 13 آذار 2009) بحيث إن الدراسات تؤكد أن هذا الموقع هو مدينة أرتوزيا الرومانية، والتي يرجّح أهل الاختصاص أن الإنسان سكنها قبل 7000 سنة.
بدأت آثار مخيم البارد، أو مدينة أرتوزيا، تظهر حينما بدأت عملية رفع الأنقاض. أعمدة رومانية من الغرانيت مرمية فوق الأنقاض، أحجار منحوتة ضخمة، تيجان أعمدة، أجران... مدينة تاريخية يمكن أن تكشف وتبرز منطقة عكار ككل على الخريطة الأثرية في لبنان. ولكن، تلك ليست أولوية مجلس الوزراء الذي أصرّ على إصدار قرار هو غير قانوني لكونه يحوي مخالفات كبيرة وعلى أكثر من جهة. ويشرح محامون أنه من الناحية القانونية الإدارية، فالقرار لا يحترم «اختصاص السلطات الإدارية»، وذلك بحسب المرجع «القانون الإداري العام الجزء 2، القضاء الإداري، مسؤولية السلطة العامة. ففي الصفحة 133 يعتبر قرار مجلس الوزراء «اعتداء سلطة عليا على اختصاص سلطة إدارية ضمنها»، إذ إن القرار الذي أقرّ ليس مرفقاً بأي رسالة أو كتاب أو تقرير علمي مرسل من المديرية العامة للآثار إلى وزارة الثقافة تحدد فيه «إمكانية طمر الآثار وجدواها العلمية».
هذا بالإضافة إلى المخالفات، فإن قانون الآثار لا يحوي كلمة أو مبدأ «طمر». «بل إن القرار مخالف للمادة 2 من قانون الآثار التي «تحدد أن كل تل أثري تطبق عليه كل قوانين الآثار حتى لو لم يكن في الجرد العام. أما بالنسبة إلى المادة 14 من قانون الآثار التي «تحدد موجب الجرد لكل أثر» وللمادة 18 التي هي «جرم جزائي، إذ يحدد خطر إتلاف الآثار» التي ستحدث بالطبع مع الردم وسير الآليات الكبيرة والثقيلة فوق المباني الأثرية الدفينة. هنا، يأتي التساؤل الأكبر عن موافقة وزير الثقافة التي تقع ضمن اختصاصه ومسؤولياته حماية الآثار. وكان الوزير قد شرح مفصلاً لمجلس الوزراء منافع الطمر وأهميته «للمحافظة على الموقع في أرضه للأجيال المقبلة». لكن إلى حين كتابة هذه الأسطر استحال الاتصال الشخصي بالوزير لمعرفة أسباب دفاعه عن مبدأ لا يعترف به علم الآثار.
في علم الآثار مبدأ الطمر يستعمل حينما تكون الآثار المكتشفة في خطر الاندثار، فيقرر حينها طمرها. مع الإشارة في الجداول والتقارير العلمية إلى أهميتها ومكانها وكيف تمت عملية الطمر التي تعتبر حينها من مبدأ «المحافظة للأجيال المقبلة». ولكن أن يعمل على طمر موقع أثري مكتشف وقد ظهرت آثاره الضخمة.
قرار الحكومة أتى ليختصر سياستها «الآثار والتاريخ والهوية الوطنية ليست من الأولويات». ولكن، وبسبب المخالفة القانونية لقرار مجلس الوزراء يؤكد عدد من المحامين إمكان الطعن به. فلو تقدم أي مواطن لبناني، أو جمعية تعنى بالحق العام أو بالمحافظة على الآثار، بطلب الطعن بالقرار أمام مجلس شورى الدولة لأُبطِل مفعوله فوراً. ويبقى السؤال: هل سيجرؤ أحد اللبنانيين على تقديم هذا الطعن باسم التاريخ والحق بالمحافظة عليه «منظوراً» وليس «مطموراً» للأجيال المقبلة؟

ارتوزيا... مدينة رومانية ــ بيزنطية




كانت آثار مدينة أرتوزيا ظاهرة للعيان في بداية القرن الماضي، حينما زارها العالم الفرنسي ريني دوسو، فقد أرّخ الزيارة في كتابه «طوبوغرافيا تاريخية لسوريا القديمة والعصور الوسطى» (باريس 1927) (Topographie historique de la Syrie Antique et Medievale). يكتب دوسو أن «المدينة التي سكّت عملاتها في القرن الأول بعد الميلاد، تحوي على الأرجح معبداً للإلهة عشتروت، رُسم شكله على العملات التي سكّت فيها، ويعود تاريخ الجسر الذي يرتفع فوق النهر إلى الفترة الرومانية حينما كان يشار إلى أرتوزيا بنقطة تبديل بروتوس لأنها على الخط الذي يصل مدينة بوردو الفرنسية بالقدس». بقي الجسر الروماني قائماً حتى بناء المخيم... أرتوزيا الرومانية اعتنقت المسيحية وأصبح لها في الفترة البيزنطية مركز أسقفي (تماماً مثل صور وصيدا وبيروت) وأسقف مثلها في المجالس في بيزنطيا.
هذا بالنسبة إلى التاريخ الروماني والبيزنطي للمدينة. لكن يرجّح علماء الآثار أن يكون الإنسان القديم قد سكنها في أولى فترات الاستيطان، وبذلك يكون التل الأثري يحوي آثار حضارات عاشت فوقه مدة تزيد على 7000 سنة. وفي الألف الثالث قبل الميلاد، كانت منطقة نهر البارد مدينة مأهولة ولها علاقات تجارية مع المدن المجاورة لها، حتى مع مصر الفرعونية. فهي مذكورة في رسائل تل العمارنة، وعُرّف عنها بـ«علازا». وهذه المدينة التي تقع على مقربة من تل عرقة الأثري تمثّل نقطة وصل مهمة بين مدينة جبيل ومدن الداخل السوري. مما لا شك فيه أن الآثار الدفينة في أرض مخيم نهر البارد ستعيد كتابة تاريخ سهل عكار، وستشرح دور هذه المنطقة في التجارة والسياسة والحروب منذ آلاف السنين.