فايز فارسلا تختلف معارك انتخابات 2009 النيابيّة في جوهرها عن تلك المعارك الانتخابية التي حصلت في لبنان ما بين 1952 و1972، وإن اخلتفت ألوانها وبعض شعاراتها:
ــــ اصطفاف حزبي شعبي شبه كامل لدى الجماعة الشيعيّة وراء حركة أمل وحزب الله بديلاً من ذلك الاصطفاف القديم وراء العائلات العلمائية التقليدية.
ــــ اصطفاف شبه كامل لدى الجماعة السنيّة في بيروت وطرابلس وعكار بالرغم من تعاظم الفوارق الطبقية بين بيروت و«ضرّتها» طرابلس، إضافة إلى الإهمال والحرمان اللذين ما زالت عكار تعيش على إيقاعهما منذ فجر الاستقلال.
ــــ اصطفاف مسيحي ماروني سياسي مستحدث يحاكي أفكاراً تغييريّة إصلاحيّة شهابيّة، كتلويّة إدّية، قوميّة اجتماعيّة وشيوعيّة لبنانيّة في مواجهة تيارات محافظة كتائبية جميّليّة قواتيّة شمعونيّة مدعومة من كنيسة مارونية تاريخيّة تقليديّة مستميتة من أجل منع حصول أي تغيير أو إصلاح رغماً عن أنف إرشاد رسولي يدعوها إلى العودة إلى الجذور والأصول.
ــــ زعامة درزية تشهد اليوم بعضاً من تغيير في المقاييس والأحجام، حيث كان اللبناني المسيحي يرجّح في الماضي كفّة فوز الزعيم الراحل كمال جنبلاط العروبي، بينما كان اللبناني الدرزي يرجّح فوز الزعيم الراحل كميل شمعون حليف الغرب.
انحصر المستجد الوحيد في بروز جماعة مسلمة لبنانية جديدة ومسيّسة بطبيعة الحال، عنيت بهم «العلويّين» في طرابلس وعكار. أمّا الأحزاب العقائدية المصنّفة يساريّة فقد بقيت على حالها تعاني الأمرّين: تمزقات داخلية مؤلمة وتحديّات خارجية شرسة، ما جعلها تختصر بأفراد على حساب الجماعة بعدما عجزت عن إجراء نقد ذاتي إنقاذي وتجديد طاقمها القيادي.
ميدانياً، زاد حجم المال الانتخابي هذه الدورة عن المعتاد حتى انفلق معه البلد وناسه، مضافاً إليه استغلال جميع الفرقاء السياسيين لذكرى الشهداء الأبرار، وبشكل تقسيمي. وذلك للأسباب الآتية:
ــــ اعتياد الناس على المال السهل خلال الحرب المسمّاة، أهلية حيث تدفق على لبنان أثناءها ما يقارب الأربعين مليار دولار ومن مصادر عربية ودولية عدة.
ــــ انهيار مؤسسات الدولة اللبنانية التي كان يعتمد عليها النائب أو زعيم الطائفة من أجل توظيف جماعته ومحازبيه وجعلهم رهينة مطواعة بين يده.
ــــ فشل مشروع الإنماء والإعمار لأنه لم يأخذ بسياسة الإنماء المتوازن التي من دونها لا نهوض لمجتمع وطني ولا قيامة لبلد دمرته الحرب. بناءً عليه، فإن مجلس النواب الحالي لا يختلف بتشكيلاته المناطقية وانقساماته الطائفية عن مجلسي نواب 1968 و1972، إلا في أسماء القادة والزعماء والتسميات الحزبيّة وتوزيع الأدوار. فما زال بإمكان مفتي الجمهورية اللبنانية الإيعاز إلى نواب طائفته بمقاطعة رئيس وزراء شبيه بأمين الحفاظ لأن زعيم الطائفة السياسي المكرّس يتمسك بكرسي الرئاسة الثالثة. وما زال بإمكان علماء الشيعة ممارسة حقهم الشرعي في دعم مرشح للنيابة والوزارة على حساب آخرين غير مرضيّ عنهم. وما زال بإمكان بطريرك موارنة لبنان التأثير على فئة من اللبنانيين الموارنة الذين ما زالوا يترددون على «كرسي الاعتراف» أقدم مؤسسة استخباراتية منذ نشوء المجتمعات.
على هذه الأسس، نشأ لبنان الحديث، وعلى هذه القاعدة قامت الدولة اللبنانية ونمت وتطوّرت واحتكمت إلى تسويات في معالجة أزمات عصفت بالوطن ودكّت أساسات الدولة أكثر من مرّة حتى كادت تقضي عليها. لكن أوضاعنا اليوم تتطلب أكثر من أي وقت مضى وجود رؤية مشتركة وسياسات إنمائية أقلّه من أجل التخفيف من حدة هذا «الصراع الطبقي» في قلب كل مجموعة طائفية من جهة وبين المناطق اللبنانية من جهة أخرى.
لذا نتوجّه بالتهنئة إلى المنتصرين كافة في هذه الانتخابات النيابية «الناجحة»، وإن انتموا إلى الفريقين المتنازعين، أي إلى تيار المستقبل الذي أثبت أنه ما زال قادراً على الاستفادة من موجة عاطفية أطلقها عام 2005، وإلى التيار الوطني الحر الذي تمكن من لعب ورقة الخصم من شحن طائفي إلى تجييش مناطقي، وإلى الزعيم الماروني التقليدي سليمان فرنجية الذي صبر وفاز، وإلى حزب الله الذي حافظ على قوته المعنوية ومناعته في مواجهة تداعيات المد الطائفي، وإلى حركة أمل التي أكدت مرّة أخرى على «وسطيتها» وإمساكها بخيوط اللعبة السياسية اللبنانية، وإلى الحزب التقدمي الاشتراكي وزعيمه وليد جنبلاط الذي أثبت مجدداً أنه بيضة القبّان، وإلى حزبي الكتائب والقوات اللبنانية اللذين استفادا من كونهما حاجة وضرورة من أجل السير في مواجهة التيار الوطني الحر الفائز الأول على الساحة المسيحية المارونية، وإلى نواب حزب الطاشناق والحزب القومي الاجتماعي وحزب البعث الذين تمكّنوا من مواجهة كل هذه الاصطفافات والعودة إلى الندوة النيابية الجديدة على أمل أن يُعتمد النظام النسبي في الدورة المقبلة.
وأخيراً، نتطلّع إلى مجموعة النواب الشباب الذين حصلوا على دعم غير مسبوق وغير متوقع لأسألهم إذا كانوا سيتمكنون من إحداث تغيير ما، أقلّه داخل الحزب أو التيار الذي مكّنهم من النجاح والفوز؟