يعدّه كثير من اللاجئين المقيمين في لبنان مرجعاً في الحقوق وتدبير شؤون حياتهم، علماً بأنه يحمل منذ عامين فقط بطاقة لاجئ. لكن الدكتور في القانون عبد المنعم موسى إبراهيم يعدّ نفسه لاجئاً قبل ذلك بكثير، هو الذي غادر السودان منذ 29 عاماً
مهى زراقط
السودان، مصر، الأردن، العراق، الأردن مرة ثانية، سوريا فلبنان. هذه هي خريطة طريق اللاجئ السوداني، المقيم في لبنان منذ عام 1987، عبد المنعم موسى. مَشَاها بحثاً عن إجازة جامعية، فحصل على شهادة دكتوراه من كلية الحقوق في لبنان. لكنه فقد، في المقابل، حقه بالعودة إلى وطنه بسبب الانقلاب السياسي الذي شهده وجعل منه، هو اليساري العلماني، شخصاً غير مرغوب فيه هناك.
لم يخرج عبد المنعم لاجئاً من السودان، بل طالباً للعلم. معدّل الثانوية الذي حصل عليه لم يخوّله الانتساب إلى جامعات الخرطوم، فالتحق في بداية الثمانينيات بزملائه الذين اختاروا الدراسة في مصر. هناك لم يستطع الحصول على مساعدة من مكتب العلاقات الثقافية لمتابعة شؤون الطلاب السودانيين، لأنه لم يدخل القاهرة عن طريقه، كما كانت تنص عليه اتفاقية بين البلدين. عُرضت عليه المساعدة من إحدى القيادات السياسية شرط الانتساب إلى حزب لا يتفق مع أفكاره، فرفض واختار دراسة الاتصالات على حسابه الخاص، وبقي حلمه الدراسة النظرية، آملاً تحقيقه في العام التالي. لكن افتتاح السفارة الإسرائيلية في مصر فرض عليه مغادرتها. «كان السودان، برئاسة جعفر النميري، آخر الدول العربية التي قاطعت مصر. وكان قد أعلن أنه لن يقاطعها إلا إذا افتتحت سفارة إسرائيلية فيها». يذكر عبد المنعم أن الحديث بين أي مصري وسوداني في الشارع المصري آنذاك كان يبدأ دائماً كالآتي:
ـــــ من وين؟
ـــــ من السودان
ـــــ مصر والسودان حتة واحدة، لكن بعد شهر 2 (تاريخ افتتاح السفارة) حيصيروا 2.
وهذا ما كان، قوطعت مصر وغادرها كثير من السودانيين، ما جعل الأردن المحطة الثانية لعبد المنعم «لأنها الأسهل». يحرص هنا على ذكر تفصيل حصل لدى الوصول إلى ميناء العقبة، إذ طلب عناصر الشرطة الأردنية من ركاب الباخرة دفع 3 دنانير، فرفض هو وصديقه دفعها قبل معرفة السبب. قيل لهما «لكي يوصلكما الباص إلى عمان»، فأجابا بأنهما يريدان البقاء في العقبة. لكن عناصر الشرطة أصرّوا على تقاضي المبلغ وعاقبوا كلّ الركاب بالنوم في الباخرة حتى اليوم التالي. وقد بقي عبد المنعم وصديقه مصرّين على عدم الدفع، رغم أن بقية الركاب عرضوا أن يدفعوا عنهما «لم تكن المشكلة في المال، بل في الخوّة التي يفرضونها». في اليوم التالي، طلبت الشرطة منهما المغادرة بعيداً عن أعين بقية الركاب. هذه الحادثة تكشف شخصية عبد المنعم، وتكشف أيضاً نظرته السلبية إلى الدول العربية التي ستترسخ يوماً بعد يوم.
في الأردن لم يجد ضالّته: «شروط الدراسة الجامعية كانت صعبة حتى على الأردنيين أنفسهم. لذا، سافرت إلى العراق». الوضع لم يكن أفضل في بغداد. صحيح أن الجامعات العراقية كانت تستقبل الطلاب العرب وتحتضنهم، لكنها أيضاً كانت تفرض انتسابهم إلى القيادات القطرية لحزب البعث، ما لم يرقه. عاد مجدداً إلى الأردن، ومنها إلى سوريا حيث تعرّف إلى طبيب عرض عليه المساعدة. بالفعل حصل على قبول في الجامعة من كلية التجارة، لكن قربه من الطلاب الشيوعيين أعاق انتسابه إليها.
يئس عبد المنعم من الدول العربية، وبدأ يفكر بالهجرة إلى أوروبا، واضعاً الدراسة خلف ظهره. لبنان، الغارق في حربه، كان منفذه فلجأ إليه. كان ذلك في عام 1987 «دخلت لبنان وفي ذهني أنه سيكون آخر بلد عربي أراه، فمنه سأغادر إلى دولة أخرى». في بيروت، وفي انتظار وسيلة سفر إلى الخارج، بحث عن تجمّعات السودانيين في الحمرا. الصدفة جمعته بصديق له، أخبره أنه يدرس العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ونصحه بالانتساب إلى الكلية.
كان ذلك في الشهر الأخير من العام الدراسي، رغم ذلك انتسب عبد المنعم إلى الجامعة. اشترى المقرّرات وأقام في غرفة، مقفلاً عليه الباب ومنكبّاً على الدرس فنجح في 5 مواد من أصل 7، استطاع إكمالها في الدورة الثانية.
هكذا، «علق» في لبنان، وتعلّق به، وخصوصاً أنه كان ناشطاً سياسياً وطالبياً. فكان يشارك في انتخابات كلية الحقوق التي لا تخلو من تأثيرات خارج الحرم الجامعي، وذلك قبل منع الطلاب الأجانب من التصويت. وبنى علاقات مع شخصيات بارزة اليوم كالنائبين علي حسن خليل وأيوب حميد وغيرهما.
أتاح له لبنان النشاط السياسي، فانتمى إلى تجمّع سرّي سوداني، «الجبهة الديموقراطية»، وكان رئيساً لاتحاد الطلاب السودانيين. كل هذا يجعله يقول بأن لبنان مختلف عن الدول العربية «ما في إنسان سألني كيف بتفكر؟ ما هو انتماؤك السياسي؟ ولا واحد حاول أن يأخذ إذناً من جهة ليسمح لي بإكمال دراستي».
لكن سعادته لم تدم طويلاً، فالانقلاب الذي حصل في السودان وأتى بعمر البشير على رأس الدولة بداية التسعينيات، كانت له تداعياته السلبية على السودانيين في الخارج وخصوصاً بعد صدور قرارات بحلّ كل الاتحادات وتشكيل لجان تسيير. عبد المنعم كان من الأشخاص الذين رفضوا الانصياع لهذه القرارات، ومنذ ذلك الوقت بدأت مشاكله وبدأ يتعرّض للمضايقات من سفارة بلده. يقول: «هددوني بسحب جواز السفر مني ونجحوا. كما عرقلوا أكثر من مرة محاولات تجديده. طردوني من النادي السوداني وأطلقوا عليّ الشائعات. كما حقق معي الأمن العام، على حسابي، أكثر من مرة، فأنا من كان يدفع أجرة الطريق»!
ما كان يشفع له دراسته الجامعية، التي كانت تتيح له تجديد جواز السفر والإقامة. لكن مع حصوله على شهادة الدكتوراه عام 2006 (موضوعها حماية المستهلك دراسة مقارنة)، وهي لا تتيح له العمل هنا، لم يعد لديه مبرر لتجديد إقامته. فتقدّم بطلب إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي اعترفت به لاجئاً عام 2007، على أمل توطينه في بلد آخر.
لعبد المنعم مشاكل كثيرة مع المفوضية، وهو من منظّمي الاعتصام الذي شهدته في 14 أيار الفائت («الأخبار» العدد 819) للمطالبة بلقاء لجنة تحقيق دولية كانت تقوم بزيارة دورية إلى لبنان. برأيه لا يختلف تعامل هذه المنظمة مع اللاجئين عن تصرّف أي نظام عربي مع مواطنيه، «لكن انهمار المطر يدفع الإنسان إلى الاحتماء ولو في كوخ من القش».
هذا لا يمنع الحلم... والأعوام الـ 52 التي عاشها ليست إلا تراكم خبرة يحلم بأن يوظّفها يوماً في خدمة الإنسان والدفاع عن حقوقه. أين؟ لا يدري.


النيل والبحر

لا يحكي عبد المنعم الكثير عن طفولته وحياته في السودان. لكنه يعترف بحنين إلى النيل الأبيض، حيث ولد. حنين يداويه بزيارة البحر، محطته في كلّ مرة يخرج فيها من بيته. «البحر يهوّن عليّ. يمتص غضبي وأحزاني». علاقته الخاصة بهذا المدى الأزرق هي ما تجعله يتمنى لو يلتقي شريكة لحياته «مثل البحر... له هذه القدرة على الاستيعاب».