إيلي شلهوببعد أيام من الاضطرابات الدامية التي أعقبت انتخابات الرئاسة المثيرة للجدل في إيران، أدلى المرشد بالكلمة الفصل: نجاد هو الرئيس الشرعي. الجميع تحت عباءة الثورة، وفي مقدّمهم موسوي وكروبي ورضائي. العدوّ يتربّص بالبلاد ويستغل حراك الشارع الذي يجب أن يغادره المحتجّون تحت طائلة المسؤولية التي يتحمّلها قادة المعارضة.
حجج كثيرة سيقت لبلوغ هذه النتيجة، التي تبقى آثارها على الشارع غير جليّة بانتظار ما سيحصل اليوم، وإن كان أغلب الظنّ أن المعارضة ستلتزم بقرار منع التظاهر، وتتجه نحو تسوية من نوع ما. يبدو واضحاً من كلام خامنئي أن أي احتجاج سيواجه بقبضة حديدية، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات حصول حمام دم. سيناريو من النوع الأخير لا شك في أنه سيحمل الكثير من الدلالات: إعلان خروج عن الثورة بالحد الأدنى، قد يصل إلى حد «الثورة على الثورة».
لكن استعادة الهدوء والعودة إلى الأطر الدستورية يجب ألا تحجبا حقيقة أن ما جرى خلال الأيام الماضية يحمل بدوره الكثير من الدلالات: عجز آليات النظام عن ضبط إيقاع الصراع داخل النخبة الحاكمة (مع ما تختزنه من امتدادات شعبية) بالحد الأدنى، قد يصل إلى حال من التصدع البنيوي الذي يتهدّد النظام برمته.
لقد قامت آلية الحكم في إيران الثورة على ما يمكن تسميته جزافاً «أوليغارشية المرشد»، الذي يجمع حوله نخبة البلد في أطر ثلاثة: مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يضم كبار القوم من رجال الدولة، الحاليين والسابقين، ورجال الدين والاقتصاد والأعمال والثقافة والعلم والعسكر... وفيه تولد القرارات. ومجلس خبراء القيادة الذي يضمن استمرارية النظام في حال وفاة المرشد أو خروجه عن مبادئ الثورة. ومجلس صيانة الدستور الذي يحفظ المناصب المنتخبة من أعداء النظام. أما باقي الأجهزة فهي تنفيذية، وفي مقدمها مؤسسة الرئاسة (التي تطبق القرارات) ومجلس الشورى (الذي يضع القوانين الضرورية لها) والمجلس الأعلى للأمن القومي (الذي يتولى الملفات الاستراتيجية).
هذا من حيث الأطر القانونية، أما من حيث المفهوم النظمي، فإن المرشد يدير هذه النخبة ويضبط العلاقة والتوازن بين مكوّناتها، متسلحاً بعناصر قوة ثلاثة: الأيديولوجيا (والمقصود هنا مفهوم ولاية الفقيه)، والعسكر (وخاصة الحرس والباسيج الذين يخضعون لإمرته المباشرة)، والمال (والمقصود الخُمس الذي يحصّله بصفته المرجعية، بالإضافة إلى مخصصاته من الموازنة العامة). للأيديولوجيا الدينية وظائف أخرى طبعاً، في مقدمها أنها تهمّش الصراعين الطبقي والعرقي، من دون أن تلغي النزعة القومية ذات التوجهات الإمبراطورية لشعب يعتدّ بحضارته الفارسية الموغلة في القدم.
لا شك في أن الثورة الإسلامية أعادت إنتاج البنى المجتمعية ـــــ الاقتصادية، التي نجحت على مدى العقود الماضية في ربط معظمها بالاستابليشمنت القائم: نشأت طبقة من رجال الدين النافذين، وأخرى من ضباط الجيش (أبطال الحرب العراقية ـــــ الإيرانية) وكبار موظفي الدولة، فيما انضوى جزء من أرستقراطية الشاه تحت لواء الثورة التي نشأت في كنفها طبقة من البورجوازية الصغيرة، أخذت تكبر شيئاً فشيئاً و(خاصة في عهد هاشمي رفسنجاني وما بعده)، وأخرى من المتعلمين التي بدأت تطالب بحصتها من الارتقاء الاجتماعي وبإصلاحات فشل عهد محمد خاتمي في الاستجابة لها. ويبقى الفقراء الأقلية الكبرى في إيران.
ما جرى خلال الأيام الماضية من اصطفاف حاد بلغ حد الصدام في الشارع، إنما يعكس تصدّعاً في الصيغة التي مكّنت هذه البنى من أن تتعايش معاً في كنف النظام. لقد أدت المقاربة الصدامية لنجاد للسياسة الخارجية إلى فرض عقوبات سببّت أضراراً لأصحاب الرساميل والمصالح (يمثلهم رفسنجاني)، فاقمتها سياساته الاقتصادية التي زادت معدلات التضخم. كما أدى تشدده الديني وتقليصه لهامش الحريات الذي عرفته إيران في عهد سلفه، ونسب البطالة المرتفعة، إلى تغريب الشباب، المديني خاصة (يمثلهم موسوي الذي يعتمد خطاب خاتمي ويسعى إلى تجنّب أخطائه). وهو ما أدى إلى انتفاض هؤلاء وأولئك بدعم من رجال الدين المعتدلين، على نجاد الذي يقف خلفه العسكر (وخاصة الحرس والباسيج، تلك الدولة ضمن الدولة) والفئات الفقيرة والمهمشة، بدعم من رجال الدين المتشددين، الذين يؤدي العامل الأيديولوجي دوراً مركزياً في حراكهم.
انقسام ينعكس حكماً على مستوى الخطاب السياسي، بين دعاة المواجهة ودعاة الحوار. بين قائل بالعداء والقطيعة المطلقة مع «قوى الاستكبار»، وقائل بإمكان إدارة الصراع معها في ظل انفتاح وتبادل للعلاقات الدبلوماسية. بين دعاة خوض معارك المستضعفين كلهم ودعاة خوض معارك إيران فقط... علماً بأن هذه الأخيرة تبقى القاسم المشترك للطرفين اللذين يختلفان في رؤيتهم لكيفية تحقيق مصالحها.
تصدّع بنيوي مرشح للتعمّق أكثر مع استمرار الحصار، ويهدد بانفراط عقد النظام عند كل انتكاسة. يمكن أن يختفي مؤقتاً في حال العدوان على الجمهورية الإسلامية، وكلياً إذا «انتصرت» إيران في معركتها مع الغرب، بمعنى التوصل إلى تسوية تضمن لها دوراً إقليمياً بصفتها دولة كبرى.
ومع ذلك، يجب الإقرار بأن المقاربة السالفة الذكر أحادية الجانب لظاهرة معقّدة تتداخل فيها العوامل المحلية والخارجية ويظلّلها غموض يفرضه التعتيم المزمن وغياب الشفافية والمعطيات التي تتمتع بالصدقية. لكنها تبقى محاولة لفهم ما يجري برسم تطورات الأسابيع والأشهر المقبلة.