اليوم راح إبدا من الآخر، لأنه الأول كان من 61 سنة. والآخر هو الحاضر! من خلال شغلي بمخبز، بيصرلي أشوف ناس كتير، وبما أنهم زبائن مداومين وما بيخونوني وما بروحوا يشتروا من مخبز تاني، فكلهم أصدقائي! بسأل واحد منهم إجا يشتري خبز: بتعرف شو في اليوم؟ الذكرى الـ61 للنكبة، سمعت عنها؟ بيرد: أكيد سمعت، بس ما كنت أعرف التاريخ! قلت له: هاي صرت تعرف، قديش عمرك؟ قال: 14 سنة! ما بعرف على مين الحق؟ عليه أو على أهله أو عالمدارس اللي اتعلم فيها! ولحتى اتثبت، يوم «استقلال إسرائيل» استجوبت ولد تاني (عمره 8 سنين) فقال باختصار وبكلمتين: النكبة لما إجو اليهود وسرقوا أرضنا.قبل بمدة، لما كان «استقلال إسرائيل» (ما بيصادف دائماً ذكرى النكبة، لأنه يؤرخ حسب التاريخ العبري ـــــ القمري اللي بيتغيّر) كان يوم عطلة رسمية في كل أراضي 48 المعروفة باسم «دولة إسرائيل»، وبما أنه أنا بشتغل (والحمد لله) عند أولاد عرب متلي متلهم، ما كان يوم عطلة، بس طبعاً كل المؤسسات الرسمية في المدينة كانت معطلة، وبالتالي أولاد المدارس كلهم كانوا فرحانين. إجا ولد صغير عالمخبز، عمره ما بيجي 4 سنين، مع أمه. هيه بدها تفرجيني أنه ابنها «أمّور» وشاطر، بتسأله: محمد ليش ما في روضة اليوم؟ قالها: ما بعرف. قالت له: اليوم هو يوم الاستقلال!
وطبعاً لأنه أنا لازم أتدخل بالموضوع، وحتى لو ما إلي علاقة، فبحكيلها: اليوم مش يوم الاستقلال، اليوم النكبة، ولا نسيتي؟ «يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا»، الأم ضلت ساكتة وما حكت شي. اشترت اللي بدها اياه وطلعت، ومن يومها ما رجعت! (بس بما إني لسه ما اعتقلت، فأكيد المرا نظيفة ومش من العصافير الكتيرة اللي بتحوم بالجو) واللي راح يسمعني لهون، راح يفكر، إنه ولو لهالدرجة الناس نسيوا أصلهم هناك؟ لا يا عمي ما نسينا وما حد نسي.
لكن الناس هون بينقسموا (حسب نظريتي الخاصة) لثلاث فئات:1ـــــ فلسطيني 2ـــــ إسرائيلي 3ـــــ فلسطيني بإثبات إسرائيلي. الفئة الأولى واضحة! وطبعاً دائماً ماكلينها سجون وتحقيقات! الفئة الثانية معروفة بالنسبة للدولة باسم: العرب الجيدين، وهدول الناس اللي سلموا بالواقع وقالوا خلص! (وما بندرج تحت هاي الفئة الخونة لأنه الخونة أساساً لا يعتبروا من لحمنا ولا منا).
والفئة الثالثة بدها شرح: لأنها فئة المسالمين من أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بكلمات أخرى الضايعين، الأغلبية. فئة أنا فلسطيني، بس إذا ما اعترفت بإسرائيل راح ياخدوا أرضي! هدول هم المجانين العاقلين! إللي تظاهروا يوم الأرض الأول ضد مصادرة أراضيهم، وتضامنوا بالانتفاضة الأولى والثانية، وهبوا يوم هبة الأقصى، وتظاهروا بالآلاف ضد حصار غزة وعلى مدى أشهر! هدول البسطاء، إللي حافظوا على هويتهم رغم كل المحاولات لأسرلتهم .هدول إللي بيهموني. ولحتى إحكي عنهم، لازم أبدا إحكي من زمان: لما أعطوا الجنسيات الإسرائيلية للي ضلوا بالبلاد وقالوا جملتهم المعروفة: الكبار سيموتون والصغار سينسون!
ولما عرفوا أنه الصغار لن ينسوا، تحول الهدف إلى جعلهم رعاة غنم، منعوا الاتصال بينهم وبين إخوتهم في الشتات. قوانين عديدة انعملت ضدهم، وقوانين عديدة منع وجود النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي أنها تمر! وما بين نظرية المساواة والواقع في فرق كبير. لكن، بما أني ما بدي إحكي اليوم عن الآخر، وبدي إحكي عن الأول بس، فما راح إحكي شو صار زمان! (واسا بعد ما قرأت كل اللي كتبته اكتشفت إني أصلح أكتر للشغل كمحللة سياسية من إني أشتغل بمخبز!)
صار لازم أروح. الساعة هون 12.30 بعد منتصف الليل. انتهت نشرة الأخبار. كانت معكم مباشرة من استوديو الجليل. صبابة الفلسطينية. الجليل المحتل. فلسطين المحتلة. الشرق الأوسط. الكرة الأرضية.
الجليل ـ أنهار حجازي