عبد الأمير الركابي *نشرت مواقع عراقية عدة قبل أيام، تفويضاً منحته مجموعة من فصائل المقاومة العراقية للشيخ حارث الضاري، الأمين العام لـ«هيئة علماء المسلمين في العراق»، يعطيه الحق في التفاوض وتمثيلها في المحافل المختلفة وعقد الاتفاقات باسمها. هذا التطور هو الفصل الأخير من جملة تطورات شهدها الوضع العراقي منذ بداية السنة الجارية، وأدى إلى تغير شبه شامل في مواقع القوى المختلفة وتوجهاتها، وغيّر مقارباتها لمختلف القضايا، الأمر الذي سيسجل لاحقاً انتقالاً يمكن أن يُحسَب على ذمة السنة الحالية، ويكون عنوانه صعود المفهوم أو الرؤية «العلمانية الضرورية» أو الموضوعية، مقارنة على سبيل المثال بحالة سنة أخرى، عرفت بالسنة السوداء، وتميزت باستفحال الاحتراب الطائفي الرهيب. تلك هي سنة 2006 التي لا يمكن إلا أن تكون هي جهنم التي أفضت إلى الدرس التاريخي الحالي، وجعلت العراقيين يقفزون من الطائفية واستعمال الدين في السياسة، إلى الوطنية التوحيدية والمدنية.
وافق الضاري على التفويض علناً، وأول ما أوصى به، طلبه إلى المقاومة أو فصائلها الالتزام بالضوابط الشرعية للجهاد. لم يكن من المتوقع أن يمتنع الرجل عن قبول التفويض، فهو ضعيف والمقاومة ضعيفة، وكل من الطرفين يجد نفسه أمام مأزق. فمسألة إخراج الاحتلال لم تتحقق، رغم أن قوات الاحتلال تلقت ضربات موجعة، والمشروع الإمبراطوري الأميركي فشل في العراق، ولم تتحقق مخططات الولايات المتحدة وأهدافها الإستراتيجية، التي كانت مرسومة ومأمولة من وراء احتلال العراق، وتحولت على العكس، إلى كارثة عسكرية وسياسية وحتى اقتصادية.
إلا أن ذلك كله حدث من دون إعلان الهزيمة العسكرية الكاملة للغزو الأميركي، وتبين في الحصيلة أن المقاومة قد عجزت أمام مهمتين جوهريتين: دحر الأميركيين وإخراجهم من البلاد، وتحقيق الوحدة الوطنية والمقاومة الشاملة. والأهم من كل ذلك أن المقاومة لم تعد تتمتع بالفعالية، أو بالقدرة اللازمة على الاستمرارية، وقبل هذا وذاك، لم تعد هي القوة الحاسمة في البلاد سياسياً، وبالأساس عسكرياً.
وهذا التطور يتداخل مع المظهر الأخير، ومع ما ترافق من تداخلات هيمنت على العمل المقاوم، وأفضت به إلى الغرق وسط موجة الاحتراب الطائفي المصنوع في جزء كبير منه من جانب «القاعدة» والأميركيين.
لا يتمتع السيد حارث الضاري برؤية سياسية واضحة، وهو ميال إلى العفوية، ولم يعرف عنه على مدى تجربته السياسية القصيرة للغاية، ما يلزم من الحصافة وبعد النظر، وهو لم يظهر قدرة على التعامل مع تعقيدات الوضع عموماً، والخشية الآن أن يتصور الأمين العام لـ«هيئة علماء المسلمين» أن التفويض الحالي يمكن أن يقوي موقعه، بحيث يستغل ذلك للإقدام على مزيد من التصلب، الأمر الذي لن تكون له أي نتيجة إيجابية ومفيدة، لا على مستوى تأمين موقع فعال للمقاومة، ولا لعموم الوضع العراقي وما تقتضيه تحولاته الراهنة. ويعتقد السيد الضاري أن العمل السياسي داخل العراق غير جائز، وقد أجاب الضاري على الأمين العام لإحدى القوى بقوله إن الحكومة القائمة غير شرعية، وبناءً عليه لا يمكن العمل بظلها. والغريب أنه أورد بيتاً من الشعر كان الشاعر الكبير معروف الرصافي قد قاله بحق الحكومة الملكية بعد قيامها في عشرينيات القرن الماضي، وهو بيت شعر شهير ومتداول يقول «علم ودستور ومجلس أمة... كلٌ عن المعنى الصحيح محرّف».
غير أن الرصافي قال بيت الشعر المذكور وهو عضو في البرلمان أيام تلك الحكومة غير الشرعية! والحركة الوطنية العراقية المعاصرة تأسست برمتها في ظل الحكومة غير الشرعية: الحزب الشيوعي، والبعث، وحزب الاستقلال، والحزب الوطني الديموقراطي (وزعيمه، كامل الجادرجي، كان وزيراً في الحكومة غير الشرعية)، وكذلك أول حزب وطني خرجت من عباءته كل الأحزاب المذكورة، (عدا حزب البعث الذي أقيم بفعل تأثيرات شامية لا عراقية)، وهو «الحزب الوطني العراقي» بزعامة أبو الحركة الوطنية العراقية المعاصرة، جعفر أبو التمن، وقد تأسس عام 1922 وأجيز رسمياً بعد الموافقة على طلب قدمه في حينه إلى الحكومة غير الشرعية.
والسيد الضاري حائر ومرتبك. وهو يعتقد أحياناً أن الحكومة الحالية ستنهار إذا خرج الاحتلال، وذلك من دون أن يوضح ما إذا كان خروج الاحتلال تنفيذاً للاتفاقية الأمنية التي عقدتها الحكومة مع الأميركيين، أو بفعل ما ستقوم به المقاومة من عمل لاحق. وهنا على الأغلب يتمثل الحرج المزدوج الحالي لكل من الضاري الذي يزداد الميل لإخراجه من المعادلة منذ مدة، والمقاومة التي فوضته. فخروج المحتلين وفق الاتفاقية الأمنية يعني حسم الوضع تماماً لمصلحة الحكومة وأطراف العملية السياسية، والإجراء الحالي، أي التفويض، لن يقدم لأطرافه أية حلول، وخاصة أنه يقحمهم في المشكلة ذاتها، ومن السهل أن يعيدهم إلى تبني صيغة طائفية صرفة في لحظة تجاوز فيها المجتمع العراقي مثل هذه المشاريع، وصار يميل إلى الحلول «العلمانية الموضوعية» المتفقة مع الحقائق الوطنية الثابتة.
يصرّح الضاري بأنهم سيتفاوضون بعد انتهاء الاحتلال مع كل القوى العراقية، ثم يعود ليتراجع عما صرح به، كما أنه لا يهتم بتوضيح إذا ما كان يعتقد أن نهاية الاحتلال ستكون على يديه، أم على يد الحكومة والعملية السياسية. والأغلب أن السبب في الارتباك الحاصل على هذه الجبهة، نابع من عدم قدرتها على النظر بمنظار وطني يتجاوز المحركات الجزئية والطائفية من جهة، ناهيك عن افتقار الهيئة أصلاً إلى السوية السياسية العملية، المتفقة مع متغيرات الواقع العراقي وشروطه، في السابق واليوم.
ويبدو أنّ الضاري والأطراف التي فوّضته محاصرة من زاوية أخرى. فالدعوة التي أطلقت أخيراً إلى العودة والعمل داخل العراق، تمثل خياراً ملحاً اليوم. وهي من الممكن أن تترافق مع مبادرة شاملة تقوم على اعتبار يوم خروج الاحتلال الوارد في الاتفاقية الأمنية، يوماً حاسماً على المستوى الوطني، إما أن يحصل فيه خروج الاحتلال نهائياً وبصورة تامة وبلا أي تلكؤ أو تأخير، أو تلتزم جميع الأطراف العراقية، من كل المكونات، بإعلان المقاومة الشاملة، على أن تكون الفترة الحالية، من هنا حتى الموعد المقرر لخروج الاحتلال، فترة انتقالية تمهد لهذا، وتتمتع فيها المعارضة بحرية العمل في الداخل، بمعزل عن العملية السياسية وباستقلال عنها. وأن تؤلّف لجنة للتحضير للتعديلات الدستورية، تقدم اقتراحاتها لمؤتمر يُعقد حال خروج قوات الاحتلال، ويضم كل القوى العراقية.
وهذه عناصر أولية لمبادرة تتماشى تماماً مع مقتضيات الحفاظ على الوحدة الوطنية وتحرير العراق، في ظرف متغير ومشحون بالمتغيرات.
غير أن السيد الضاري ما زال يرفض العمل في الداخل، مع أنه مارسه إلى أن تعذر عليه البقاء داخل العراق. وهو، والهيئة، أول من اقترح جدولة الانسحاب الأميركي وفشل في تحقيقه، وهو أقام حواراً في القاهرة مع عتاة العملية السياسية، والتقى حتى شخصاً مثل أحمد الجلبي... ممّا يدلّ على أن سيرة الرجل لا تتميز بالطهرانية المطلقة، أو بتحريم الاتصال بالطرف الآخر.
يمكن أن يكون التفويض الممنوح للسيد الضاري مصدر تطوّر إيجابي، إذا كان سيمنحه شعوراً بالقوة والوزن، يحفزه لقبول مقترحات تتفق مع مقتضيات اللحظة الوطنية الراهنة، وتسهم في تجنيب العراقيين، الذين ملّوا من الموت والكوارث، المزيد من الغوص في الموت والكوارث.
* كاتب عراقي