ثمة ما هو غير متجانس في هذا الاسم. في إمكان البعض أن يتصوّره حيّاً أثرياً اشتهر بالتنك، وفي إمكان البعض الآخر اعتباره حيّاً «إكزوتيكا» يجذب السياح إلى سوق شهير بأعمال يدوية على صفائح التنك. لكن واقع الحال هو أن الحي يعني اسمه حرفيّاً: حي سكني بمنازل تنك، يسكنه 961 شخصاً، مقسّمين على 186 عائلة وبيت، والجميع مهدد بالطرد من المنازل التنك التي على تواضعها، هناك أسوأ منها: الشارعالميناء ـــ نسيم عرابي
في السبعينات من القرن الماضي، بدأ تجمع سكاني يتكوّن في ما كان يعرف ببساتين الميناء بين أشجار الليمون والحمضيات. تزامن الأمر مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. لكن أهل الحي، الذي بدأ بالتكون من صفائح التنك، لم يكونوا من نازحي الحرب الأهلية أو مهجريها. كانوا ببساطة من ضحايا الفقر ورثاثة الحال. «لسنا مهجري الحرب، نحن مهجرو فقر»، يقول ماجد برنار (المتحدر من أصل فرنسي من أيام الانتداب)، وهو أحد سكان الحي ومتابع لمشكلته. عدد السكان سرعان ما تزايد حتى وصل عام 1980 إلى 140 عائلة. في تلك الفترة، كانت هذه الأرض مشاع دولة، وهذا ما دفع بعض المحتاجين إلى اللجوء إليها هرباً من التشرد «وكان أتخن دركي حقه ليرة في تلك الأيام»، يقول أبو فؤاد.
الحالة المعيشية في هذا الحي ليست بحاجة إلى الشرح الطويل، إذ تعمل أغلبية أهالي الحي في العتالة، وبيع القهوة، وتجميع البلاستيك من مستوعبات النفايات، إضافة إلى عدد كبير من العاطلين من العمل. أما أطفال حي التنك، فغالباً ما يتركون مدارسهم في سن مبكرة للانتقال إلى العمل الذي تحتاج العائلة إلى كل قرش من عائداته. المشاكل الأخرى؟ كثيرة: غياب تمديدات الصرف الصحي والإنارة والطرق المعبّدة، إضافةً إلى المشاكل الصحية والبيئية. إلا أن كل ما عددناه، على أهميته، يبقى «ثانوياً» مقارنةً بالمشكلة الأساسية. فما هي هذه المشكلة إذا ما اعتبرنا كل ما سبق «ثانوياً»؟
«فوق الموت هناك غصة قبر»، هكذا تصف أم ريان المشكلة الأساسية لأهالي الحي الذي تسكنه. فبعدما لجأ هؤلاء إلى أراضي دولتهم المشاع لكي يبنوا لهم فيها سكناً، بيعت الأراضي لكبار الملّاكين في طرابلس (شركة فتّال أبناء عم، شركة الرملاوي) عملاً بقرار «الضم والفرز». كان ذلك عام 1992. تزامنت هذه الإجراءات مع دعاوى رفعها الملّاكون الجدد أمام القضاء، يطالبون فيها بإخلاء 30 ألف متر مربّع، أي المساحة الإجمالية لحي التنك للمباشرة في استصلاح الأرض واستثمارها.
هكذا، علت صرخة الأهالي. وبدأوا منذ عام 1994 يطرقون أبواب نواب طرابلس وصولاً إلى رئيس الحكومة آنذاك، الراحل رفيق الحريري. يشير برنار، أو أبو فؤاد، إلى استنسابية في التعامل مع أهالي حي التنك. «فالمشكلة نفسها واجهها أهالي ما يعرف برأس الصخر، وقد حصلوا على تعويض قدره 10,000 دولار على الوحدة السكنية، إضافةً إلى 2,000 دولار عن كل ولد، وفي زمن كان سعر المنزل فيه 20,000 دولار، قبل أن ترتفع الأسعار وتصل إلى ما وصلت إليه في هذه الأيام». ويضيف الرجل إن «المضحك المبكي أن التعويض المعروض علينا بعد كل هذا السرد هو 4,000 دولار!». ويضيف «معظم سكان رأس الصخر كانوا قد أتوا من قرى الضنية، وبالتالي حصلوا على تعويض وعادوا إلى قراهم. أما أهالي حي التنك، فالأغلبية الساحقة منهم من أهالي الميناء، والبعض القليل من التابعية السورية لكنهم ولدوا هنا وتزوجوا في الميناء، وبالتالي لا مكان يعودون إليه».
بقي الوضع على حاله، بين جلسات في المحكمة واستئناف للأحكام، وتحويل إلى مجلس الإنماء والإعمار، وصولاً إلى عام 2001، عندما صدر قرار وزاري يمنع إخراج السكان من الحي قبل التوصل إلى حل شامل يقضي بدفع تعويض يؤمّن لسكان الحي القدرة على ترك الأرض التي يعيشون فيها حالياً والانتقال للعيش في مكان آخر.
لكن، حالما شعر أهالي الحي بقليل من الاطمئنان، بدأت أحكام إخلائهم تصدر تباعاً عام 2005. لذلك، هرع هؤلاء فزعين من إمكان رميهم في الشارع الذي لا تفصلهم عنه إلا صفائح التنك، وعيّنوا محامياً ليتابع قضيتهم. الرد على ادعائهم بأن القرار الوزاري يحميهم، كان القول بأن أصحاب الأرض لهم الحق في مطالبتهم بإخلاء المكان بغض النظر عن مشكلتهم مع الدولة (في ما يتعلق بالتعويضات).
هذا ما دفع سكان الحي إلى التوقيع والبصم على عريضة، إضافةً إلى بعض مخاتير الميناء، تناشد الدولة الالتفات إلى مشكلتهم، وإيجاد الحل المناسب لها. «لم نوفر مرجعية سياسية في طرابلس إلا وزرناها، والكل أكد أنه إلى جانبنا، والكل كان يقول لنا: فليبلّطوا البحر، لن تخرجوا من منازلكم قبل حصولكم على التعويض المناسب»، يقول أبو فؤاد. يشير الرجل في ختام حديثه إلى أن لجنة من وزارة المهجرين أتت في أوائل عام 2007 إلى الحي و«كشفت على الواقع الذي نعيشه، وأكدت أنها في طور إيجاد الحل المناسب لنا، لكنها اختفت بعد اندلاع حرب مخيم نهر البارد، دون أن يفهم أحد ما هي علاقة وزارة المهجرين بمعارك نهر البارد وأسباب اختفاء اللجنة».
أما العريضة، فتقول: «رضينا بعيشة الذل في منطقة قد تخجلون من ذكر أنها من الأراضي اللبنانية، لكن مصالح الكبار قضت بالقضاء حتى على آخر معاقل فقراء هذا الوطن. نحن متمسكون ببقائنا داخل منازلنا أو ما يسمى المنازل، ولا بديل عنها سوى السجون لنتّقي بها حر الصيف وبرد الشتاء». هذا ما ورد في بيان أهالي الحي، الذين حذّروا من تأخير الحل أكثر من ذلك.
وقد بدأ تنفيذ الإخلاءات منذ شهرين، حيث أخليت أربع وحدات سكنية. إلّا أنّه جرى بناء جدار يفصل الحي عن الكورنيش البحري، وقد افتُتح أمام الحي مقهى سياحي، وإلى جانبه محطة محروقات. والمواجهة الأولى كانت في 7 أيار الماضي، عندما اعتصم الأهالي أمام عناصر قوى الأمن الداخلي الذين كانوا قد أتوا لتنفيذ قرار الإخلاء، إلّا أن الأهالي منعوهم من ذلك.