اقتصاد السوق الاجتماعي»، شعار اعتمده حزب البعث في سوريا وأحزاب يمينيّة في أوروبا. فكر نشأ في ألمانيا، واعتمد أسساً فلسفيّة ونظريّة، وطبع مرحلةً طويلة من التاريخ الألماني. وقد توطّد لأنّ أحد منظّريه قام بانقلابٍ ماليّ ونقديّ أعاد إطلاق الاقتصاد الألماني بعد الحرب الثانية. النظريّة في العمق هي نظريّة تأسيس الدولة؛ فأين الدولة في لبنان بعد الحرب، وفي الدول العربية الأخرى بعد الطفرة الريعيّة النفطيّةشربل نحاس *
تتمتّع تسمية «اقتصاد السوق الاجتماعي» بجاذبيّة أكيدة، لأنها تجمع قطبي «السوق» و«المجتمع»، وكلاهما رمزٌ محبّب في إحدى المنظومتين الفكريتين الغالبتين على الفكر والخطاب السياسيين في العالم أجمع، الليبرالية من جهة، والاشتراكية من ناحية أخرى. إلا أن هذه التسمية، مثلها مثل غالبية التسميات ذات الطابع التوفيقي، تخفي وراء جاذبيتها التباسات كبيرة، خاصة عن أعين من يعوزه الاطلاع على مضامينها المفهومية، وعلى ظروف نشأتها التاريخية، وعلى مندرجاتها الإجرائية، فيقع ضحية لتنوّع أبعادها الرمزية ولعمليات استغلال هذا التنوع. وفي الواقع، لا سيما على أثر انهيار النظام السوفياتي، واختلال ميزان النظريات الاقتصادية والسياسية الكبرى في سوق الإيديولوجيات، استُذكرت هذه التسمية وتعزّز استخدامها وتجييرها في مجالات ووفق توجهات بعيدة كل البعد عن حقيقتها. فحزب البعث في سوريا مثلاً، أعلن في مؤتمره العام في 2005، وفي سياق سياسات «التحرير الاقتصادي»، تبنّيه نظريّة «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وتصميمه على تطبيقها على الاقتصاد السوري. وفي المقابل، اعتمد أحد أكثر تيارات حزب المحافظين يمينية، في التسعينيات، التسمية ذاتها، وكان يضمّ بين أعضائه مارغريت تاتشر.
مرادنا هنا مقارنة مقولة ألمانية المنشأ والتطبيق بالواقع وبالتجربة اللبنانيين. وهذا تحدٍّ كبير، يحكمه عدم التوازي بين المقاربة النظرية والمقاربة البراغماتية من جهة، وبين بلدين متباعدين من جهة أخرى. لا أظن أن هناك حاجة لتعداد أوجه الاختلاف التوصيفية بين البلدين، ألمانيا ولبنان، أكان لناحية حجم كل منهما أو طبيعة اقتصاده أو موقعه في العالم... فالبلََدان يكادان يقعان عند طرفي نقيض بالنظر إلى هذه المعايير القياسية جميعاً. لكن المسافة أبعد من فوارق القياس، فالمسافة التوصيفية بين البلدين يعززها شعور تخيّلي سائد بأن لا تأثير حاصلاً أو منتظراً لأيّ منهما على الآخر، وهذا الشعور، إن كان مفهوماً من الجهة الألمانية، يسترعي الانتباه من الجهة اللبنانية، فهو يوحي بأن لا تأثير خاصاً لألمانيا في لبنان، لا اليوم ولا في الماضي، واستطراداً أن لا محل للغرضية في علاقاتها به، فلا محل بالتالي للتملّق في العلاقة المعاكسة. فتبلغ المسافة، ببعديها القياسي والتخيّلي، حدّاً يؤسّس لنوعٍ من التنزيه في العلاقات المحتملة، لو وجدت.
وبما أن لألمانيا، في الاقتصاد العالمي وفي الثقافة العالمية وفي التاريخ العالمي الحديث، حضوراً بارزاً وقوياً، لا بل صاخباً، لا يدّعي اللبنانيون مجاراته أو مقارعته أو إنكاره في أيّ من مجالاته، بل يقفون حياله معجبين، فاهتمامهم بألمانيا ينطلق من اهتمامهم بالمعالم الظاهرة عنها على الساحة العالمية، ويبدو اهتمامهم بالتالي طبيعياً على الرغم من أحاديّته. فهم إذا بدوا شغوفين بالسيارات الألمانية، ومتحمّسين لفرق كرة القدم الألمانية، ومتهيّبين للجيش الألماني ومؤيّدين له شعورياً، وإذا راحوا يعلّقون أعلام ألمانيا على شرفاتهم وسياراتهم، فإنّهم يعتبرون أن سبب «حبهم لألمانيا» ليس لأنّها ألمانيا بل لأنها دولة قوية.
فألمانيا تجمع، في مخيلة عرب المشرق، صفتين نادرتين: امتلاكها القوة الذاتية وبراءة علاقتها التاريخية بهم. وبما أن أبناء المشرق قد اكتووا بمرارة الهزائم وبمذلّة الرضوخ في تاريخهم الحديث، فهم يعتبرون أنفسهم ضعفاء بصفتهم الجماعية، مفتقدين لمقدرات القوة التي تتحلّى بها الدول ومؤسساتها (من الفرق الرياضية إلى الشركات الصناعية إلى الجيوش)، ولذا يعظمون القوة المؤسّسية حيث يجدونها. لكنهم، في الوقت ذاته، ينتفضون بحدة، بصفتهم الخاصة، حيال مهانة إشعارهم بضعفهم الجماعي. وألمانيا، في نظر الكثيرين منهم، ترتدي جلال القوة دون أن تحمل مرارة الإذلال، لا بل أنها تشفي غليلهم لأنها أثبتت تكراراً أن قوتها توازي، إن لم تكن تفوق، قوة سائر كيانات الغرب التي أذلتهم قوتها طوال المرحلة الاستعمارية وإلى اليوم. فألمانيا، على الرغم من مظاهر القوة التي تزينها في نظر شعوب المشرق المقهورة، لم يكن لها حضور استعماري مباشر في لبنان والمنطقة، مثل فرنسا وبريطانيا، ولا تأثير معلن ووقح على مسارهما التاريخي، مثل أميركا، لا بل هي واجهت هذه الدول جميعاً في حربين عالميتين، فلم يختلط الإعجاب بإنجازاتها التقنية والعلمية والعسكرية بلوعة الاكتواء بأطماعها وبتعاليها. ما يعزّز هذه الصورة التخيّلية أن أهل بلادنا، في الغالب، لا يعرفون الكثير عن ألمانيا، فيكاد لا يتكلم أحد منهم الألمانية. لا بل أن المثقفين من بينهم قد اكتسبوا مراجعهم التاريخية عن ألمانيا من كتب البريطانيين والفرنسيين والأميركيين ومن أفلامهم، وهي في غالبيتها، أقلّه حتى الأمس القريب، تحمل صورة سلبية عن «الألماني» الرتيب، العسكري، العنيف، القليل الفكاهة والمبادرة... ومن المفارقات التي لا يصعب فهمها أن هذه الصورة السلبية والكاريكاتورية قد عززت الشعور بالمسافة بين «الألماني» والمشرقيين.
لكننا، إذا أصررنا على تخطي هذه المسافات القياسية والتخيّلية بين ألمانيا ولبنان، لنمعن النظر في التجربة التاريخية الداخلية لكل منهما، لاستوقفتنا عندئذ بضعة نقاط تشابه لافتة، وبضعة قنوات تأثير فاعلة، وهي، على الرغم من اختلال التوازن الذي يحكم طرفيها، وحتى لو بقيت خافتة أو غير مباشرة، مثيرة للاهتمام.
بين تاريخ ألمانيا وما عشناه في لبنان
خلال القرن الماضي، كان لألمانيا تأثيرٌ حاسم، وإن غير مباشر، على أهم مفصلين في تاريخ هذه المنطقة عموماً وفي تاريخ لبنان بالتحديد. تمثّل المفصل الأول بتحالفها مع الدولة العثمانية لمواجهة الدولتين الإمبرياليتين الكبريين، بريطانيا وفرنسا، وحليفتهما روسيا، وبجذب السلطنة لخوض الحرب العالمية الأولى إلى جانبها، ما دفع الدول «الحليفة» إلى الإقلاع عن سياستها التقليدية القاضية بالمحافظة على الدولة العثمانية شكلاً (لا سيما في مواجهة نزوع روسيا إلى التوسّع جنوباً)، والتغلغل فيها ونخر مقدراتها الداخلية فعلاً، لتتخذ القرار الحاسم بفرط عقدها وتقاسم أراضيها، وهو ما حصل في نهاية الحرب. فأتى تفكيك الدولة العثمانية تحوّلاً تأسيسياً في المنطقة، نشأت بنتيجته الدول العربية المشرقية التي نعيش فيها اليوم. هذا فضلاً عن دور ألمانيا الأكيد في تعزيز الفكر الإسلامي السياسي ومقولات الخلافة والجهاد لتأليب الشعوب الإسلامية حولها في مواجهة الحلفاء، وعن إقدام هؤلاء في المقابل، لكسب تأييد الأوساط اليهودية التي اعتبروها مؤثرة في ألمانيا وفي أوساط حزب «الاتحاد والترقي»، إلى إطلاق وعد بلفور بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين. وهكذا لم يبقَ أي عنصر من عناصر تراجيديا القرن العشرين خارج المسرح.
وتمثّل المفصل الثاني بقيام السلطة النازية في ألمانيا، وعملها خلال الحرب العالمية الثانية على فرض هيمنة ألمانيا على أوروبا، وفي السياق ذاته على تصفية اليهود في أوروبا، ممّا عزّز قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية غداة انتهاء الحرب، على أساس «عقدة ذنب» الدول الأوروبية عموماً وألمانيا خصوصاً حيال يهود أوروبا، وهي عقدة ذنب لم تدفع هذه الدول، وألمانيا تحديداً، إلى التعويض على اليهود الأوروبيين في أوطانهم وعلى تعزيز وجودهم فيها، بل بلغت غيرة الدول الأوروبية عليهم أن شجعت من تبقّى منهم، على النزوح من خلال توفير الدعم والحماية لممارسات إسرائيل الإرهابية ضد أبناء فلسطين والدول المجاورة كي يستقرّوا فيها محلّ سكّانها الأصليين (وقامت المنظمات الإرهابية الصهيونية في هذا السياق بمحاولة اغتيال المستشار أديناور).
أمّا منذ الحرب العالمية الثانية، وعلى أثر ما خلفت من دمار مادّي هائل في أوروبا ومن تراجع حاد في المقدرات السياسية لدولها، فقد انخرطت ألمانيا في المشروع الأوروبي، إلى جانب عدوّتها التاريخية فرنسا، عضواً مؤسساً، وتحولت بسرعة إلى صوتٍ وازن، وعاد لها من هذه الزاوية تأثيرٌ لا يستهان به على منطقتنا؛ وإن كان هذا التأثير، هذه المرّة أيضاً، تأثيراً غير مباشر. لكن تعديلاً كبيراً طرأ على وجهة هذا التأثير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونظام القطبين الذي تحكّم بالعالم وبالمنطقة لعدة عقود. وكانت أولى نتائج تفكّك منظومة حلف وارسو، هو توحّد ألمانيا باستيعاب الجمهورية الاتحادية الغربية للجمهورية الاشتراكية الشرقية. وسارعت الولايات المتحدة، فور تحوّلها إلى القوة العظمى الوحيدة، إلى اعتماد سياسات هجومية على جبهتين رئيستين: أوروبا الشرقية من جهة أولى، حيث شجعت على تفكيك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، وعلى انضمام الدول الناشئة إلى الحلف الأطلسي، والشرق الأوسط، حيث استلمت مقاليد الأمور بشكلٍ مباشر، فنظمت تحالفاً واسعاً لطرد الجيش العراقي من الكويت ثم أطلقت «مسار التسوية» بدءاً بمؤتمر مدريد، مروراً باتفاق أوسلو فبخرائط الطريق والاتفاقات المتتالية، وصولاً إلى اجتياح العراق...
هذا في مجال التأثير الخارجي، وأما على صعيد التجارب الداخلية، فهناك عدد من المفاصل في تاريخ ألمانيا تحاكي ما عشناه في لبنان، فألمانيا دولة حديثة العهد لم تتشكّل نهائياً إلا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (أي على أيام متصرفيّة جبل لبنان)، وشهدت حربين، ولا سيما الحرب العالمية الثانية، أحدثتا دماراً هائلاً واستدعتا إعادة أعمار طالت لبضعة عقود؛ وهذا يشبه ما عشناه في لبنان؛ وشهدت كذلك، غداة الحرب العالمية الثانية حركات نزوحٍ كثيفة من مناطق كانت ألمانيّة في بولونيا ومن المناطق الشرقية في ألمانيا إلى الغرب، وشهدت إعادة توحيد في مطلع التسعينيات، وكل هذه التجارب تحاكي ما مررنا بها.
اقتصاد السوق الاجتماعي
من منظور «اقتصاد السوق الاجتماعي»، تستأهل المقاربة والمقارنة بين ألمانيا ولبنان أن تتدرّجا إنطلاقاً من النظريّة، مروراً بالممارسة، ووصولاً إلى ما هو أهمّ: الثنائية الاتجاه بين التجربة والنظرية.
على الصعيد النظري، يسهل تحديد أي نظريّة انطلاقاً ممّا تنقض أكثر مما يمكن تحديدها انطلاقاً مما تقول، لأنّ أصحاب النظريّات ومروجوها، عندما يطرحون مقولاتهم، يسعون طبعاً إلى تسويقها بالشكل الذي يقرّبها من السامعين، فلا تظهر بالضرورة العناصر ولا الميّزات الخاصة بها، بينما لا يمكن تصور تكوّن النظرية أصلاً إلا بوصفه تمايزاً عن الأطروحات القائمة سابقاً أو أقلّه إعادة ترتيب لتلك الأطروحات أو لبعضها؛ فما من نظرية تأتي من فراغ أو من خارج عالم النظريات.
نشأ فكر «اقتصاد السوق الاجتماعي» من مشاعر الخوف، بعد الحرب العالمية الأولى ومآسيها، على انهيار الدولة، وأتى ردّة فعلٍ على عددٍ من التجارب السابقة، طاول بعضها مجمل العالم الغربي الصناعي في حينه، وكان بعضها الآخر خاصاً بألمانيا. بالمعنى التاريخي المباشر، نشأ هذا الفكر في كنف جمهورية «فايمار» القلقة، وأتى في مواجهة كلّ من المرحلة البسمركية السابقة، والفكر الاشتراكي الماركسي، والتوجّهات النازية السياسية والاقتصادية.
من خصائص الرأسمالية الألمانية، أنّ نشأتها تواكبت مع فكرٍ اقتصادي غلبت عليه النزعة التاريخية والمؤسسية، في مقابل فكرٍ اقتصادي في بريطانيا وفرنسا كان أكثر تركيزاً على السلوكية الفردية «الحرة» من القيود المؤسّسية. ولم يبدِ الفكر الاقتصادي الألماني خلال تاريخه، شغفاً كبيراً بالأفكار الليبرالية، على عكس ما شهدته النمسا المجاورة تحديداً.
هكذا نشأت مدرسة «اقتصاد السوق الاجتماعي» وفق روادها كبعثٍ لليبرالية، حيث أطلقوا عليها اسم الليبرالية الجديدة، وهي طبعاً غير النيو ليبرالية التي عرفناها في أيامنا، وما أكثر اللذين استخدموا هذا التعبير وما أكثر المدلولات التي يشير إليها. واسمها الأصلي هو الأوردو ليبراليسم (ordoliberalismus)، أو الليبرالية الانتظامية، وهي تقوم على المزاوجة بين فكرتي الانتظام والليبرالية. والليبرالية التي تدعي إحياءها هي ليبرالية الكلاسيكيين في نهاية القرن الثامن عشر التي تبرز فعلاً بعض نقاط التشابه معها: فهي أولاً مبنيّة على فكرٍ يشتمل على البعدين الفلسفي والاقتصادي معاً، وهي ثانياً نخبويّة التوجه، تتوخّى التأثير على الأحداث من خلال تأثيرها على النخب، وهي ثالثاً تبشيرية، يبذل مروّجوها جهوداً مركزة لتوسيع دائرة مؤيّديها في الجامعات والنشر والمحاضرات... ويمكننا القول اليوم إنها تشبه أيضاً المقولات الاقتصادية الكلاسيكية في نهايات القرن الثامن عشر لكونها لم تستمرّ طويلاً محافظة على استقلاليتها ونقائها النظريين، فتمّ استيعابها إلى حدٍّ بعيد من قبل تيارات فكريّة أخرى، لا سيما الفكر النيو ــ كلاسيكي بحيث بات وهج فكر السوق الاجتماعي، بوصفه فكراً اقتصادياً، متراجعا قياساً على موقع المدرسة الانكلوسكسونية السائدة، على الرغم من رواج تسميته في سوق الشعارات السياسية.
ما هي عناوين هذه المدرسة؟ يمكن استعراضها بسرعة من 3 زوايا: الاقتصاد ثم الفلسفة ثم السياسة.
اقتصادياً، تقول إن الليبرالية ليست تلقائية أو فطرية أو طبيعية لدى البشر، بل هي نظامٌ مبنيّ إرادياً وتاريخياً، وتضيف شارحة أن الليبرالية الفطرية، إذا تركت تسير على هواها، تنتهي بسرعة وبالضرورة إلى الدمار والتقهقر، وبالتالي فإن ثمّة حاجة مطلقة لحماية الليبرالية من الانحراف الذي تنحو إليه تلقائياً، ولإقامة أنظمة اجتماعية تحيط بالحرية الاقتصادية وتنظّم عملها من جهة، وتعير مسألة التعويضات الاجتماعية اهتماماً دائماً، من جهة ثانية. واللافت أن هذه المدرسة تنظر إلى التعويضات الاجتماعية من منظور التقديمات الرديفة، أي تصحيحاً للخلل وسداً للحاجات التي لا تلبى تلقائياً، وليس من ضمن منطق تعميم أنظمة الرعاية والتقديمات الاجتماعية. وهذا فرق أساسي ليس فقط مع النظريات الاشتراكية وإنما أيضاً مع المقاربة «الأبوية» لقادة يمينيين مثل بسمارك. ولا ننسى أن الضمان الصحي وضمان البطالة أنشأهما بسمارك لتطويق الأطروحات الاشتراكية وليس أنصار مقولة اقتصاد السوق الاجتماعي (الذين أتوا لاحقاً) ولا حزب الوسط (الذي كان قائماً أيام بسمارك والذي يعتبر الأقرب إلى مقولاتهم).
في المقابل، تشدّد مدرسة «اقتصاد السوق الاجتماعي» على أهميّة حياديّة السياسات العامة حيال آليات السوق، فهي، على الصعيد النقدي، من أشدّ أنصار الثبات النقدي واستقلالية المصارف المركزية، وكان لها دورٌ حاسم في إرساء المصرف المركزي الأوروبي على أسس الاستقلالية ذاتها التي تأسس عليها المصرف المركزي الألمانيّ، وهي تعتبر التضخّم آفة خطيرة (لا بدّ هنا أيضاً من استذكار مفاعيل التضخم في ألمانيا في العشرينيات على الساحة السياسية وتأثيره على توسع الحركة النازية)، وهي أخيراً، على الصعيد المالي، من أشد مناهضي العجوزات في الموازنات العامة ولا تعتبر الاستدانة العامّة مبرّرة إلا لتمويل الاستثمارات المنتِجة.
فلسفياً، تقول إن الليبرالية نظامٌ اجتماعي وليست قيمة فرديّة، لأنها لو كانت كذلك لفرضت ذاتها دون حاجة إلى تأطيرٍ مجتمعي. بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويقولون إن الحرية ليست قيمة خلقيّة مطلقة، فالقيمة المطلقة هي الانتظام الاجتماعي، والحريّة الاقتصادية هي خير وسيلةٍ لخدمة هذا الهدف العالي، لكنّها وسيلة من الوسائل. وعلى هذا الأساس، يلتقي هذا الفكر مع الفكر المسيحي الكنسي في الكثير من توجهاته العاملة على تأطير السلوك الفردي، استناداً إلى مقولة تراتبية القيم العامة؛ بينما يختلف مع الفكر الليبرالي ولا سيما مع المدرستين النمساوية والاسكتلندية. وقد استوحيت تسمية الحركة «الأوردو ليبرالية» وعنوان مجلتها المرجعية التي ما زالت تصدر حتى اليوم «أوردو» من تعبير استخدمه القديس أغسطينوس. لعل المسألة المحورية في نظر هذه المدرسة الفكرية تكمن في التراتبية النظرية والسببية التي تقيمها بين الحيز الاقتصادي تحديداً والنظام الاجتماعي عموماً. فإن كان معظم أتباعها متفقون على المستوى الإجرائي حيث يعتبرون أن الانتظام الاجتماعي يتقدم على النظام الاقتصادي على صعيد الغايات بينما يحظى النظام الاقتصادي على الأولوية في مقابل السياسات الاجتماعية على صعيد الوسائل، فإن مواقفهم تشهد تبايناً ملحوظاً على المستوى النظري: فثمّة بينهم (أحد أبرز المؤسسين، أويكن Eucken مثلاً) من يعتبر أن معظم الاختلالات المجتمعية (إن لم تكن كلّها تعود إلى تأزّم الاقتصاد، والمثال المؤسس في هذا السياق يبقى طبعاً صعود النازية في ظل الأزمة الاقتصادية التي شهدتها ألمانيا ما بين الحربين العالميتين)، وثمّة في المقابل من يرى (روبكي Röpke مثلاً) أن الاختلالات الاقتصادية ليست سوى انعكاس لأزمة مجتمعية عميقة. ولا يخفى ما يفتح هذا التباين النظري من ثغرات في تماسك النظرية حيال النظريتين المرجعيتين، النيوليبرالية والماركسية.
سياسياً، تؤدّي هذه المقاربة إلى جعل دور الدولة أساسياً وتأسيسياً في المجتمع. فالمسألة ليست مسألة إيلاء الدولة بعض المهام الاجتماعية، بل تكمن المسألة في وضع أنظمة مجتمعية إرادية. إذ تنعكس أولوية الأنظمة المجتمعية في عدد من المجالات. من أبرزها المحاربة الشرسة لكافة أشكال الاحتكارات، لاعتبارهم أن الليبرالية، على فضائلها الإجرائية، تولّد الاحتكارات باستمرار، والاحتكارات تقتل الليبرالية وتعطل مفاعيلها المنشودة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التوجّه ضد الاحتكارات يناقض التوّجه السائد تاريخياً في الاقتصاد الألماني، الذي شهد باكراً موجات تركّز عارمة، سواء في أيام البسماركية أو في ألمانيا النازية. وهو لا يتلاقى أيضاً مع التكتلات النقابية القطاعية التي شجعتها النزعات الاشتراكية كافّة، بما فيها الاشتراكية المسيحية. ومن هنا تالياً الاهتمام الدؤوب بحماية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتعزيزها، وهي ما زالت إلى اليوم تشكل النسيج الأساسي والقاعدة الصلبة للقدرة التصديرية الألمانية (وليس المقصود هنا المؤسسات المجهرية العائلية الطابع والبدائية الإنتاج مثلما هي الحال في بلادنا عندما يدور الكلام عن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة). ومن هنا أيضاً السعي إلى تعزيز ما سمي «بديموقراطية رأس المال»، أي الادخار الشعبي وصيغ الضمان الترسملية.
تثير نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي»، لمن ينظر إليها انطلاقاً من إحدى النظريتين المرجعيتين: النيوليبرالية والماركسية، وعلى الرغم من إحكام بنيانها، بعض الحيرة؛ لأنها تجمع مقولات لا ترى أيّة من النظريتين مجالاً لجمعها؛ فهي شديدة الحرص على ليبرالية الأسواق وحركيّة الأسعار من جهة، ومتمسكة بدور سامٍ وحتّى لاهوتي للدولة، بوصفها مسؤولة عن الانتظام الاجتماعي.
وتستدعي هذه الحيرة ملاحظتين. الأولى هي أن الحيرة التي تثيرها نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» أكثر بروزاً على الصعيد النظري منها على الصعيد الإجرائي؛ فالنيوليبرالية المطلقة قد كشفت أخيراً، بمناسبة الأزمة المالية العالمية، درجة اتكالها على الدولة، فطرحت جانباً أيديولوجيا تخطّي الدولة التي بقيت تروّج لها منذ سنوات، والاقتصاد الموجّه (لا سيما في الاتحاد السوفياتي قبل انهيار نظامه) قد أدخل في واقع ممارسته آليات السوق في مجالات عدّة من الاقتصاد، دون الكلام عن الدور الحيوي للاقتصاد السوقي الموازي. ومن هنا فإن الموقع الخاص لهذه النظرية بين النظريات الاقتصادية المرجعية، وإن كان يفسر عدم انتشارها، بوصفها نظرية، خارج نطاق الدول الناطقة بالألمانية (ألمانيا، النمسا وسويسرا)، فإنه يدعو للتفكير في مسألة أهم، ألا وهي موقع كل من هذه النظريات من الممارسات الفعلية التي تتم في ظلّها الشكلي. أما الملاحظة الثانية فهي تاريخيّة ومفادها أن ادعاء أصحاب نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» أنّها بعثٌ للفكر الليبرالي قولٌ صادق؛ وهو يخبر عن حقيقة أن الليبرالية لم تدخل فعلياً إلى ساحة الفكر الاقتصادي الألماني إلا معهم، أي بتأخر قرن ونصف عن انطلاقها في بريطانيا وفرنسا، منذ أيام الاقتصاديين الكلاسيكيين. والمفارقة في هذا السياق، أن الفكر الاقتصادي الليبرالي انطلق في ألمانيا في عزّ الأزمة المالية في الثلاثينات، في وقتٍ كان هذا الفكر يشهد تراجعاً حاداً وإعادة نظر جوهرية في بلاده الأصلية، أكان حيال الفكر الاشتراكي أو من قبل التجديد الكينزي. وقد استمرّت المفارقة بعد الحرب الثانية، فبدا روّاد «اقتصاد السوق الاجتماعي» عندما وصل بعضهم إلى السلطة في نهاية الأربعينات، يسيرون عكس التيار السائد في أوروبا لصالح الأفكار الاشتراكية، ليس في شرق أوروبا وحسب بل في غربها (فرنسا وبريطانيا تحديداً).


* اقتصادي لبناني، موقعه على الانترنت
www.charbelnahas.org
(من محاضرة أُلقيَت في ندوة نظمها المركز اللبناني للدراسات ومؤسسة كونراد أديناور في بيروت في 21 و22 حزيران / يونيو 2008، تنشرها «الأخبار» بالاتفاق مع مجلة «لوموند ديبلوماتيك ــ النشرة العربيّة)