أندره تحومي*لا يُعقل ولا يُمكن ومن المستحيل أن يكون العقل الذي خطّط لانتخابات 2009 في لبنان، في يوم واحد، وبخطة سير متفوقة، حيث خلت الشوارع من السيارات إلا القليل منها، ومن البشر إلا قرب مراكز الاقتراع، وكأنه يوم حظر للتجوال، فاجتزنا المسافة التي كانت تفصلنا عن مركز الاقتراع العائد لنا بأقل من نصف ساعة ـــــ لا يُعقل أن يكون العقل هو نفسه الذي أشرف على تنفيذ الانتخابات، ولا اليد نفسها هي التي خططت ونفّذت. فبين التخطيط والتنفيذ الفرق نفسه بين الرقي والبدائية وبين الحضارة والتخلّف، وكأننا عدنا، في لحظة، خمسين عاماً إلى الوراء. فبعدما هيّأتنا وزارة الداخلية والبلديات للانتخابات من خلال استعمال تقنيات المعلوماتية، أكان لنشر لوائح الشطب وخرائط القرى أم تحديد مراكز أقلام الاقتراع، ووزعت في صناديق بريد المواطنين وعلى أبواب منازلهم منشوراتها المطبوعة كمثل «لنشوفك بالانتخابات شوف هالمعلومات»، عدا عن الدعايات في وسائل الإعلام التي تدعو إلى الخيار الحر... ظننا أننا دخلنا فعلاً في العصرنة وأن حلم الوطن الحضاري بدأ يتحقق.
وما كانت السرعة في اجتياز المسافة بين جونيه وحارة حريك إلا لتجعلنا نصطدم بشدة أقوى بحائط واقع المركز حيث سِجِل نفوسنا وقد استفقنا مذهولين ومتألمين من الحلم الذي كنا نعيشه. فالناخبون في صفوف متراصّة أمام أحد أبواب مبنى مركز الاقتراع، ولا تنظيم ولا من يرشد إلى الباب الصحيح ولا من يوقف تدفق المواطنين من الباحة الخارجية إلى داخل المبنى ريثما تخف الزحمة داخله.
وبعد التدافع، قُذِفنا إلى الداخل من باب حديدي فُتحت إحدى درفتيه وصعدنا على درج ضيق لا يتسع لأكثر من شخصين على الدرجة الواحدة، بينما الوافدون الصاعدون يلتطمون بعضهم ببعض وبالنازلين، فيعلق حزام شنطة يد إحدى السيدات بيد سيدة أخرى، ويشارك الجميع في حلحلة القضية وتحرير السيدة المغادرة التي كانت قد أتمّت واجبها الوطني.
وبعد أكثر من ساعتين من الوقوف على الدرج، أنفاً لأنف، نتنافس على جزيئات الهواء ونمزج أنفاسنا وندفع يميناً ويساراً، من المرأة الحامل، والمقعدة، وتلك التي لا تزال ضمادات العملية الجراحية التي خضعت لها تخفي عينها، وتلك التي تحمل ساقها في الجفصين بدلاً من أن تحملها ساقها، وتلك التي في قلبها ما يساعده على حسن الأداء، إلى كل اللواتي سلب وقتهن، وقد كان لنا ما يكفي من الوقت للتعرف إلى كل ما تُظهره وتخفيه الأجساد والنفوس، وصلنا أمام باب الغرفة حيث كان علينا أن ندلي بأصواتنا، فوجدنا، ملصقة على حاجب الباب، ورقة كُتِبَ عليها بخط يد كأنها لم تعتَد القلم، رقم الغرفة. فهنا لا معلوماتية ولا طباعة. أما الغرف المخصصة للذكور، فقد أُلصقت على بابها ورقة من الطراز نفسه كَتَبَت عليها اليد نفسها تارة «ذكور» وطوراً «رجال».
وفي عز هذه الزحمة الخانقة وفي ضيق هذا المكان، تبادر إلى ذهني أنه ليس هناك من مخرج طوارئ وهذا من بديهيات السلامة العامة في البلدان المتحضرة، إذ إن أي حادث بسيط من زلة قدم على الدرج سوف يودي بحياة الكثيرين كما حصل على جسر الأئمة في العراق حيث قتل المئات بسبب التدافع.
عندها، ظهر بيننا رجل أمن حاملاً سلاحه فوق رأسه ورؤوسنا، وليس من الصعب لمن يتمتع بمخيلة واسعة أن يتصور الأسوأ. كما أنني اليوم أتساءل هل كانت شروط الصحة العامة متوافرة أم أن الجميع نسوا أن هناك مرض أنفلونزا الخنازير يجوب العالم، وربما بيننا مغتربات؟ فهل استشيرت وزارة الصحة قبل دعوة الناخبين إلى مراكز كهذه؟
شعرت بالإهانة والإذلال ولم أصدق أن الخطة المدروسة للإعداد للانتخابات سوف تنحدر إلى هذا المستوى من البدائية عند التنفيذ. هل كنت واهمة؟ وقد أيقظتْ عملية الاقتراع المهينة هذه ذكريات تشابهها. فقد سبق أن تعرضتُ للإهانة في إحدى الدوائر الرسمية، حيث طََلََبَ مني الموظف المعني بطاقة هويتي لإنجاز المعاملة التي كنت في صدد إتمامها. وبعدما نظر إلى هويتي أعادها إلي رمياً على المكتب. لم أجد ساعتئذ ما أقوله له لشدة دهشتي وألمي، وظلت القضية تنخر ضميري إلى أن سمعت العماد عون يقول ذات يوم في إحدى المقابلات التي تجرى معه إن القيمة الكبيرة لا ترد على القيمة الصغيرة، فوجدت بهذا الحل راحة لنفسي. وبينما كان يهينني هذا الموظف، كانت إحدى زميلاته في الوزارة حيث كنا، تقطع الوقت بتبصيرة بورق اللعب على الكمبيوتر. كان هذا في شباط 2008 وكان في وزارة الاتصالات.
أما وقد دخلت إلى غرفة الاقتراع، وبعدما سلمت بطاقة هويتي إلى المسؤول وقارنها بالجدول أمامه، تراءى له أن هناك خطأً في سنة الولادة. ألقيتُ نظرة سريعة إلى الجدول وأشرت إليه أنه ليس هناك من خطأ، فنبّهني المسؤول الثاني إلى أنه لا يحق لي النظر إلى السجل. وبعدما أسقطّت الظرف في صندوق الاقتراع وأسقطت إصبعي في الحبر الذي لا يزول مفعوله إلا بعد أكثر من 48 ساعة وليس 24، انتهت عملية الاقتراع وخرجنا كأننا نخرج من عراك جسدي لا من معركة انتخابية. ففي جسدنا تعب وفي نفسنا خيبة ومرارة وفي فكرنا تساؤل. وبما أنه يبدو أن هذا الوضع كان سائداً في عدد كبير من مراكز الاقتراع كما ذكرت وسائل الإعلام، فلا يسعني إلا أن ألفت نظر معالي وزير الداخلية والبلديات إلى أن هناك حتماً عقلين ويدين في هذه العملية الانتخابية، وإلّا فكيف تفسر كل هذه الوقائع؟
صحيح أن مشاهدة الواقع بطريقة موضوعية تعدّ من أصعب العمليات في التفكير العلمي، إلا أن اللجوء إلى تقنيات المعلوماتية ربما وسّع الهوة بين العالم الافتراضي والواقع؛ فمعرفة الواقع تفرض الموضوعية المبنية على القياسات والأرقام والوقائع، ويكون نجاح العملية في التطابق بين الافتراض والواقع. فلو أُعير للواقع اهتمام أكبر لربما كان بالإمكان تفادي ما تعرّض له جزء كبير من الشعب اللبناني.
كما أنه من الممكن أن تكون المؤسسات العامة تسير بسرعات متفاوتة إلى حد كبير ما أدى إلى هذا الوضع الشاذ والمحفوف بالمخاطر.
ورغم كل هذه المضايقات، تمكّنت أصواتنا المسجلة على الورق أن ترتفع لتحمل من اخترنا، ليس على الأكتاف، بل إلى حيث ناضلوا لكي يكونوا، فانطلقوا مكلّلين بالحرية والكرامة والرونق الذي يضفيه على الأشياء عمل الإنسان وعناؤه.
* أستاذة جامعية