أحمد أبو أحمدخبر انضمام ثلاثة من نواب زحلة إلى كتلة القوات اللبنانية أعادني إلى ذكريات الطفولة، حيث كنا نحن أولاد ذلك الزمن من المحظوظين جداً في الوطن، فكنّا من القلائل الذين يستفيدون من حلوى الأعياد جميعها، فلا حواجز ولا حرّاس بين رياق وعلي النهري أو أبلح والنبي أيلا أو الكرك وزحلة أو المعلقة وزحلة أو حوش الأمرا وجوارها أو سعدنايل وتعلبايا.
فكان الأهل في القرى المسلمة يزورون الأهل في القرى المسيحية للقيام بالواجبات الاجتماعية في الأفراح والأتراح والأعياد، وهمنا كأطفال كان ينحصر بالحلوى الموزعة في تلك المناسبات، ولم نكن نشعر بأن بين البيوت أي فرق أو خلاف أو تباين، فالكل أهل والكل يتشارك على الحلو والمر.
وما كان يجمعنا نحن الأولاد أيضاً هو المسارعة إلى صفائح التنك الموجودة بحوزتنا عند شعورنا بأن حوتاً ما حاول الاقتراب من قمرنا، فنهرع إلى الضرب على التنك ونصرخ بأعلى أصواتنا «فلّت قمرنا يا حوت، الله يبعتلك شاحوط»، ونلتقي جميعاً ومن جميع الطوائف (للأسف طوائف)، لكننا لم نكن نعلم بذلك، نلتقي ونستمر بالصراخ حتى يخجل ذلك الحوت أو يخاف منا فيترك قمرنا وشأنه فنعود جميعاً منتصرين فائزين غير آبهين بالتعب الذي حل بنا نتيجة معركتنا مع الحوت المجهول.
بعد المعارك كنّا ندخل إلى أول بيت نجده، فتهتم الأمهات بنا جميعاً دون سؤالنا حتى عن أسمائنا، وتستحضر الجدات ما لديهنّ من زبيب وقضامة وجوز يوزعنه على الأطفال، وكانت الجدات يكررن عبارة «كلو يا حبيباتي، خير الله، فلاح مكفي سلطان مخفي»، ونكتشف نحن أننا سلاطين مخفيون لأننا فلاحون مكفيون، وهكذا استمرت الحياة في زحلة وقضائها.
أما الفلاحون الحقيقيون في زحلة وقضائها وهذه المنطقة بالمناسبة تشبه الوطن «لبنان» بجميع تفاصيله، ففيها كل طوائف الوطن ومذاهبه من دون استثناء، ولا يستطيع أحدهم العيش دون الآخر، فالذي يزرع مثلاً البطاطا في أرض علي النهري يشتري البذار من زحلة والمياه من تربل وورشة قلع البطاطا من الفاعور، أما النقل والتوضيب ففي مجدل عنجر، وعندما يريد الجميع الخلود إلى الراحة وقليلاً من نسيان الهم فإلى مطاعم عنجر.
ففي هذه البقعة من الوطن، لا يمكن لأية مجموعة أن تعيش وحدها أو منعزلة عن الباقين، فمصالح الكل مرتبطة بمصالح الكل ولا تستطيع زحلة وجوارها العيش في جو تباعد أو تنافر أو حتى جو التفرقة الطائفية.
ونحن الزحليين، من المدينة كنا أو من القضاء، فإن عتباً كبير على الحاج نقولا فتوش، الدكتور والمحامي والعارف والمتبصر والفلاح ابن الفلاح، أي مثلنا «مكفي وسلطان مخفي» كيف لم يتنبه إلى حوت الطائفية يغزو زحلة، وهو الذي لو خاض الانتخابات منفرداً فإنه حتماً سينجح لما له في كل قضاء زحلة من مودة واحترام، فكيف سمح أو كيف انطلت عليه وبالتالي على زحلة «مربى الأسودي» تلك الحالة الطائفية البغيضة التي لن تؤثر بالعلاقة بين الزحليين أو أهل القضاء.
«سنزحلن العالم» قال يوماً سعيد عقل، عذراً أيها الشاعر الكبير فأجراس زحلة لم تقرع. ولكن الكل سيعود إلى دفاتره العتيقة يوماً وسنحمل التنك والطبل بوجه التفرقة والطائفية والبغضاء لنصرخ جميعاً «فلّت زحلتنا يا حوت». لتبقى زحلة بالقَلب وليس «بالقُلب».