اقتصاد السوق الاجتماعي»، شعار اعتمده حزب البعث في سوريا وأحزاب يمينيّة في أوروبا. فكر نشأ في ألمانيا، واعتمد أسساً فلسفيّة ونظريّة، وطبع مرحلةً طويلة من التاريخ الألماني. وقد توطّد لأنّ أحد منظّريه قام بانقلابٍ ماليّ ونقديّ أعاد إطلاق الاقتصاد الألماني بعد الحرب الثانية. النظريّة في العمق هي نظريّة تأسيس الدولة؛ فأين الدولة في لبنان بعد الحرب، وفي الدول العربية الأخرى بعد الطفرة الريعيّة النفطيّة
شربل نحاس *
أين يقف لبنان في هذا المسار؟
إذا بدا الفكر الاقتصادي في ألمانيا متأخراً عن مسار الفكر الاقتصادي الغالب في العالم، وهذا ما يفسر تناقض توجهاته في لحظة معينة مع التوجهات الاقتصادية الغالبة، فإنّه حافظ دون شك على نوعية رفيعة انعكست في توسع الجهد النظري ليطاول مجالات مختلفة من العلوم الإنسانية، وفي استمراريته لعقود وفي استيعابه لأحداث وتطورات جسيمة ولتيارات وآراء متنوعة، والأهم من ذلك كله، في تمكنه من رفد الفكر الاقتصادي العالمي بمقولات جديدة أثرت في مساره العام.
مقارنةً مع لبنان، نرى أن الاتجاهات الغالبة على الفكر الاقتصادي فيه، غداة الاستقلال والحرب العالمية الثانية، أتت هي أيضاً معاكسة للتوجّه الغالب في حينه على الفكر الاقتصادي العالمي، وعلى التوجّهات السائدة أيضاً في المنطقة (سواء في سوريا الاستقلالية حيث غلبت السياسات الحمائية مما أدّى إلى القطيعة الاقتصادية بين البلدين، أو في إسرائيل). فاعتمد لبنان صيغاً قصوى من الليبرالية لم يجرِ تلطيفها إلّا مع عهد فؤاد شهاب، على أثر الحرب الأهلية الصغرى في عام 1958. وبعدما أطاحت الحرب الأهلية الكبرى ببنيان الدولة اللبنانية التقليدية، استفاق لبنان على الموجة النيوليبرالية فاعتنقها باندفاعٍ شديد وما زال إلى اليوم.
توحي مقارنة الفكر الاقتصادي في كلٍّ من ألمانيا ولبنان بتشابههما في معارضة مسار الفكر الاقتصادي الغالب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن هذا التشابه خادع لأنه يخفي موقعين مختلفين للفكر الاقتصادي في العمل العام. فالفكر الاقتصادي الألماني، إلى جانب إيلائه الدولة مسؤولية نظرية تأسيسية، يفترض مسبقاً أن الدولة قائمة ومقتدرة مادياً ومعنوياً، مع مجمل المؤسسات الإدارية والعلمية المواكبة، ومنها الجامعات والمنتديات السياسية التي يتركّز فيها جهده النظري وتدور حولها سجالاته. ومن هنا يضطرّ الفكر الاقتصادي إلى استيفاء شروط عدّة من التبلور والتماسك والتعمّق، مقابل إطلاله على منافذ تأثير تبدأ من التعليم والنشر، وتصل إلى التأثير في برامج الأحزاب وإلى تبوّؤ المراكز العامة.
أما في لبنان، فموقع الفكر من الممارسة مختلف. ففي مجال الفكر الاقتصادي، يتمسّك اللبنانيون ببضعة عبارات عامة وردت في الدستور وتكرّر في شتى المناسبات حول «الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية». لكن المسافة بين هذه الشعارات الفضفاضة والممارسة كبيرة جداً؛ واللافت أن هذه الشعارات لم تتغيّر في حين تغيرت الوقائع الاقتصادية جذرياً، وكيف لها ألا تتغير مع ما شهده المجتمع من هزّات وانهيارات مروعة.
ففي مرحلة ما قبل الشهابية، كان هذا الكلام الإيديولوجي يعبّر فعلياً عن نظرة «جمهوريّة التجار» البيروتية التي فرحت لتحرّرها من عبء الإدارة الفرنسية، ولم ترِد أو لم تجرؤ على إرادة الإمساك بالمجتمع الذي ورثته ضمن حدود لبنان، ببناء الدولة اللازمة لذلك. واستفاد هذا التردّد الجبان من سلسلةٍ من الأحداث الإقليمية (قيام دولة إسرائيل، التأميمات ونزوح الأموال والكفاءات، وبداية استخراج النفط...) ليستمرّ على الرغم من فشله الكامل، في تكوين مقوّمات سلطة تحيط بالمجتمع بأيّ شكلٍ من الأشكال، وقاوم بشراسة محاولات الترميم التي حصلت خلال الستينيات وفي مطلع السبعينيات.
أما بعد اتفاق الطائف، فقد استبقي الشعار لسببين: أولهما لتعزيز مشروعية استحواذ الفئات الحاكمة الجديدة على إرث لبنان ما قبل «حروب الآخرين على أرضه»، وثانيهما لتوافق زمن اتفاق الطائف مع فورة النيوليبرالية في العالم. لكن القول إن الاقتصاد في لبنان حرّ أمرٌ لم يعُد يمت للواقع بأيّ صلة، لأن جزءاً أساسياً من تكوّن الثروة فيه، بات يمرّ من خلال ممارسات احتكارية، إن لم يكن من خلال أشكال احتكارية منظّمة، بدءاً من النظام المالي وصولاً إلى القطاعات المختلفة التي بقيت ناشطة في الاقتصاد. فالمرتكز الأساسي لهذا الواقع هو تداخل العام والخاص، بما يعني إباحة شراء السلطة بالمال وشراء المال بالسلطة.
هذه ليست ظاهرة محصورة في لبنان، بل هي انعكاس، بتلاوينٍ محلية، للنظام الغالب في الدول النفطية المحيطة، حيث، وبحكم تركّز الثروة في قبضةٍ واحدة، اصطلح على تسميتها الدولة، وجلّ وظائفها يتصل بإعادة توزيع الثروة بما يوفّر شروط استمرار الانتظام العام، ومحوره استمرار القدرة على ضبط آلية التوزيع هذه، فقد اختلطت الثروة والسلطة منذ نشوئهما معاً. وبالتالي، فإن المقولات عن «اقتصاد السوق الاجتماعي»، مثلها مثل الكلام عن «الاقتصاد الحر»، أو عن «الاشتراكية»، لا تعدو كونها تغليفاً متنوعاً، بحسب التقاليد المختلفة لكلّ بلد ولكل مجموعةٍ حاكمة، لنمطٍ اقتصادي سياسي واحد. لناحية الممارسة، لا بد من التذكير بأن فكر «اقتصاد السوق الاجتماعي»، قد نشأ بين المثقفين في الجامعات، ولم يكن وليد تراث سياسي محدد ومتجسد في حزب، وإن كان يبدو اليوم مرتبطاً عضوياً بالحزب الديموقراطي المسيحي الألماني. والواقع أن هذا الحزب، عندما تأسس غداة هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، مستوعباً كوادر حزب الوسط (الكاثوليكي) الذي انحلّ عام 1933، قد انطلق على أساس برنامجٍ سياسي واجتماعي أقرب إلى اليسار (مؤتمر شباط 1947)، متأثّراً بتيار «الاشتراكيين المسيحيين».
كان الشعب الألماني يعيش في ظل تقنينٍ صارمٍ واقتصادٍ مركزيّ موروثين من الحرب، رافقهما عوزٌ شديدٌ وسوق سوداء نشطة. وكان لودفيك إيرهرد أستاذاً جامعياً من روادمدرسة «الأردوليبرالية»، استعان به حاكم بافاريا العسكريّ بصفته مستشاراً اقتصادياً. وشاءت الظروف والصدف أن كلّفت الجيوش الحليفة إيرهرد بإدارة الأوضاع الاقتصادية والمالية في منطقتي الاحتلال الأميركي والبريطاني لشغور المركز، فبادر في حزيران 1948، دون تنسيقٍ مسبقٍ مع قياداتها، إلى عملية انقلابية كان قد حضر لها نظرياً منذ زمن؛ فأعلن، في قرارٍ يقف عند حافة اللاشرعية، إلغاء النقد الألماني المتداول، في يومٍ واحد، وتقديم سلفات محدودة من وحدات نقدية جديدة لكلّ مواطن، وتحرير كافّة السلع من قيود الأسعار. نجح الانقلاب وزالت السوق السوداء للتوّ، وعاد الألمان بسرعة إلى العمل وارتفع الإنتاج بنسبة 50% خلال بضعة أشهر. وقد أتى تبنّي الحزب الديموقراطي المسيحي لتوجه «اقتصاد السوق الاجتماعي» الليبرالي في مؤتمره الثاني في تموز 1949، تكريساً لنجاح الانقلاب الذي قاده لودفيك إيرهرد واستيعاباً لهقفزاً إلى اليوم، فإنّ الساحة التي تبرز فيها تأثيرات فكر «اقتصاد السوق الاجتماعي» بشكلها الأوضح ليست الساحة الألمانية بل الساحة الأوروبية حيث ينصّ مشروع الدستور الأوروبي (الذي تعطّل إقراره) ومعاهدة لشبونة (التي يفترض أن تحلّ محله) على أن «الاتحاد الأوروبي يعمل من أجل اقتصاد سوقٍ اجتماعيّ مع السهر على تنافسٍ حيّ».
أما إذا عدنا إلى تاريخ تطبيق هذا الفكر وتأثيرها على السياسات الاقتصادية في ألمانيا ذاتها، فيمكن التعرف إلى فصلين كبيرين: مرحلة أولى، أيّام كان لودفيك إيرهرد وزيراً للمالية ثم مستشاراً بين 1948 و1966، وهي تمثل العصر الكلاسيكي والتأسيسي لتطبيق هذا الفكر، وكانت مرحلة إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي؛ ثم، بين 1966 واليوم، حيث تعاقبت ثلاثة مراحل أجمعت على اعتماد موقفٍ إيجابي من مقولات «اقتصاد السوق الاجتماعي»، لكنها خلعت عباءتها على مضامين اقتصادية مختلفة. فتحْتَ قيادة الاشتراكي ويلي براندت (1966 إلى 1982)، تمّ مزج أطروحات «اقتصاد السوق الاجتماعي» مع الأطروحات اليسارية، لا سيّما بعدما تخلى الحزب الاشتراكي في مؤتمر باد غودسبرغ، عام 1959، عن مرجعيته الماركسية ليتحوّل إلى التوجّه الإصلاحي، متأثّراً بالنجاح السياسي لتطبيق نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» خلال الحقبة السابقة، فتوسّع دور دولة الرعاية وتعزّز موقع النقابات وارتفع العبء الضريبي. وكان عنوان المرحلة داخلياً قطف ثمار مرحلة إعادة الإعمار، وخارجياً إرساء التهدئة مع الكتلة الشرقية.
بعدها، عاد الديموقراطيون المسيحيون إلى السلطة مع هلموت كول (1982 إلى 1998)، تحت عنوان إعادة تصويب السياسات الاقتصادية وتقويمها وفق النظرية الأصلية. لكنّ انهيار جدار برلين وضرورات توحيد ألمانيا، فرضوا توسعاً هائلاً في الإنفاق، ولم تجرِ إدارة عملية التوحيد وفق النهج المتقشِّف الذي اعتمد في مرحلة إعادة الإعمار، ولم يكن نجاحها باهراً كذلك، ولا تمكّنت الحكومة فعلياً من لجم المكاسب الاجتماعية التي تحقّقت في المرحلة السابقة.
أخيراً، عاد الاشتراكيون إلى السلطة مع غيرهرد شرودر (1998 إلى 2006)، فتولّوا هم، إلى حدٍّ بعيد، تنفيذ المهمة التي فشل اليمين في تطبيقها. وشهدت المرحلة تحديداً إقرار النظام النقدي الأوروبي الموحد ومن ضمنه معاهدة الاستقرار المالي التي تستوحي بحذافيرها مبادئ «اقتصاد السوق الاجتماعي».
وفي المحصلة، لا يمكن اعتبار كل ما حصل في ألمانيا، منذ الحرب العالمية حتى اليوم، نتاجاً لنظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي»، لأن في ألمانيا الكثير من الأحزاب والأطراف السياسية المختلفة، وحتى ضمن الحزب الديموقراطي المسيحي، هناك تيارات متعددة لم تلتزم جميعها بالنظرية، وقد تطوّرت الأفكار مع الزمن. لا بل أن الكثير من العناصر التي تعتبر مكوّنة للنموذج الألماني، ليست فقط غير مندرِجة ضمن سياق فكر السوق الاجتماعي، بل هي مناهضة له، تحديداً التوسع في «اقتصاد الرخاء» ومسألة مشاركة العمّال في الإدارة واعتماد المفاوضات القطاعية على الأجور...
هكذا، إذا أراد المراقب متابعة المسار العمليّ خلال نصف قرن من زاوية نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي»، يستوقفه التباس المواقع والمواقف حيالها: فملكيتها الأصلية سجّلت على أسم حزبٍ لم يرعَ نشوءها بل تبنّاها انتهازاً بعد إحرازها نجاحاً باهراً غير متوقع؛ ثم أتى حزبٌ مناوئ، فاستبدل مرجعيّاته الأصلية بجزء من مقولاتها، مكرّساً نجاحها الصوري، لكنه انعطف بالمزيج الذي ألّفه وفق توجهاته الأصليّة المناقضة لها؛ ولمّا عاد الحزب الأول إلى السلطة لترميم الهيكل، لم يبدِّل في الأمور كثيراً، بل ترك مهمة «التصحيح» للحزب المناوئ، وإن أتى التصحيح أقرب إلى النيوليبرالية الأميركية. فنظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي»، مثلها مثل سائر النظريات السياسية والاقتصادية، تحوّلت بسرعة مادة لإعادة التأويل والاستخدام في سوق الأفكار والسياسة.
لكنّ إمعان النظر في هذا المسار من زاوية محصلاته المؤسسية يسمح أيضاً بالتعرف، وراء الحركة المتذبذبة لرقاص الإيديولوجيا، إلى منحى متصل سمته التراكم. وعلى هذا الصعيد، وبانتظار تبلور نظريّة لنشوء النظريات وتطوّرها، قد تأتي يوماً وقد لا تأتي أبداً، يمكن القول استناداً على التجربة، إن نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» كانت، على المدى الأطول، نظرية تأسيس الدولة وهي، لهذا السبب، تجلّت بنجاحٍ استثنائي مرتين: مرّة في مرحلة إعادة بناء ألمانيا على أنقاض الحرب، وإنّما أيضاً على أنقاض المقولات القوميّة من نازية ومن بسماركية؛ ومرّة ثانية في مرحلة بناء أوروبا، وهنا أيضا على أنقاض أوهام الإمبراطوريات.

«اقتصاد السوق الاجتماعي» نظريّة تأسيس الدولة

أبرز ما يستحقّ المقارنة بين تجربتي ألمانيا ولبنان هي عملية إعادة الإعمار في كل منهما؛ أولاً لأهميتها التاريخية والسياسية وليس الاقتصادية فقط، وثانياً لأنها تتصل مباشرةً بلبّ نظرية اقتصاد السوق الاجتماعي، وقد وفرت لها أبرز نجاحاتها التطبيقية.
ويمكن اختصار المقارنة تحت ثلاثة عناوين: المساعدات الخارجية، السياسة النقدية، والسياسة المالية.
1ــ أوّل ما يرد في الحديث الرائج عن إعادة إعمار ألمانيا هو الكلام عن «خطّة مارشال» وما وفّرته لألمانيا من مساعدات، وغالبيتها من الهبات. والواقع أن مجمل هذه المساعدات لم يتخطَّ ملياراً ونصف المليار من دولارات تلك الأيام، وقيمتها الحالية توازي عشرة أضعاف هذا المبلغ تقريباً، أي نحو 15 مليار دولار من دولارات اليوم. وإذا ما قارنا هذه المساعدات بما أتى إلى لبنان، من هبات وقروض وأموال، قياساً على حجم الاقتصادين وعدد السكان واتساع الدمار في البلدين، فإنّها تبدو هزيلة تماماً.
2 ــ ثانياً، على صعيد السياسة النقدية، كان أول ما برزت من خلاله نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» إلى العلن، في العام 1948، هو عملية التصغير الهائلة (بنسبة 90%) والمفاجئة لحجم الكتلة النقدية في ألمانيا؛ بحيث حوّل قسرياً كل عشرة رايش مارك إلى دويتش مارك واحدٍ جديد، مع حدٍّ أدنى قدره 60 دويتش مارك لكل فردٍ يضاف إليها 60 دويتش مارك لكل عاملٍ في مؤسسة، وذلك بغية لجم التضخّم وكسر آليات السوق السوداء، ولكي تنطلق العجلة الاقتصادية من كتلةٍ نقديةٍ صغيرةٍ تنمو مع الإنتاج.
أمّا في لبنان، فقد قمنا بعكس ذلك تماماً، فعملنا بجهدٍ متواصلٍ لنعظّم حجم الكتلة النقدية، ويكثر من يقولون أن الوضع الاقتصادي لدينا ممتازٌ لأن السيولة تزيد بنسبة 10% كل سنة؛ وقد زاد أحدهم أخيراً، من موقعه المسؤول، أن لا داعي للقلق على الاقتصاد لأن السيولة وفيرة ومتنامية دوماً؛ وبما أن السيولة هي العصب الأساسي للنمو، فالنمو مضمون والازدهار حاصل!
3 ــ ثالثاً، في السياسة المالية، بعد سنتين أو ثلاث من نهاية الحرب، بلغت الموازنة الألمانية نقطة التوازن وبدأت تسجّل فوائض، وبدأ الميزان التجاري يحقّق بدوره فوائض في سنة 1952. أمّا في لبنان، فإننا نقول إننا اشترينا السلم بالمال، وهو مال المواطنين، وجمعنا ديناً لم يصِل إلى مستوياته دين أيّ بلدٍ حتى في أزمنة الحروب، وما زلنا نسجّل سنةً بعد سنة عجزاً تجارياً وعجزاً في ميزان عملياتنا الجارية غير مسبوقين.
بشكلٍ عام، يكفي التذكير لتبيان الفرق في التوجه الاقتصادي أن عدد ساعات العمل الوسطي بقي أعلى من خمسين ساعة أسبوعياً في ألمانيا حتى سنة 1957، بينما تمّ في لبنان الاستغناء عن مواجهة الأعمار، بوصفه تحدياً وفرصةً في الوقت ذاته، بالاعتماد على تدفّق الريوع والأموال وإقامة مضخّات لزيادة حجم هذا التدفق؛ وكان من نتيجة ذلك أننا لم نحقّق نموّاً بل راكمنا ديناً، والأهم أنّنا بالتالي لم نبنِ دولة بهذه المناسبة.
والسؤال الذي يطرح اليوم، بعد انقضاء ما يقارب عشرين سنة على اتفاق الطائف، عن الأسباب التي جعلت ألمانيا تستعيد مستويات إنتاجها قبل الحرب خلال خمس أو ست سنوات بينما لا يزال مستوى الدخل الفعلي للفرد في لبنان حتى اليوم دون مستواه قبل الحرب بنحو 30 إلى 40%؟. وإذا كانت آثار الدمار قد زالت اليوم من ألمانيا، وعاد السائح يشاهد الواجهات القديمة للمساكن والكنائس والمتاحف والقصور، فيجدر استذكار صور عام 1945 لقياس ما معنى الدمار.
تقودنا هذه المقارنة إلى مسألة بالغة الأهمية، نظرياً وعملياً، حول طبائع الدمار وسياسات الإعمار. إذ لعلّ تفسير الفرق في نتائج الإعمار بين ألمانيا ولبنان يكمن في اختلاف الهيكلية الداخلية للتدمير بين مكوناته الثلاث: رأس المال المادي، ورأس المال البشري، ورأس المال المؤسّسي، كلّها قياساً على حجم السكان.
من هذه الزاوية فإن الدمار في ألمانيا كان مادياً بشكل رئيسي. مات كثيرون وجرح كثيرون وتُرك كثيرون في الأسر. إنّما الذين بقوا في ألمانيا الغربية أو نزحوا إليها كانت كفاءاتهم الفرديّة محفوظة ووفيرة، فلم يهاجروا، وكانت الأطر المؤسسية غير العسكرية، من جامعات وإدارات عامة ومؤسسات خاصة، ما تزال قائمة. هذا يعني أن رأس المال المادي قد طاله تدمير ساحق ليس بالمطلق فقط، بل قياساً على عدد السكان، لكن رأس المال البشري، وإن كان قد أصيب بشدّة، فإن ما تبقّى منه كان بنفس نسبة السكان، إن لم يكن أعلى، وأما رأس المال المؤسّسي فلم ينهر.
ما حدث عندنا كان على العكس تماماً: حصل دمارٌ ماديّ لا يستهان به لكن رأس المال البشري أصيب بخمس عشرة سنة من النزيف المستمرّ، ولم يعُد المهاجرون؛ ورأس المال المؤسسي انهار ولم يقُم، وهنا يكمن الفشل الذريع لاتفاق الطائف وكيفية تطبيقه، لا سيما من خلال توجهه لإعادة بناءٍ للدولة على قياس الميليشيات وعلى أساس تآلفها؛ فكان هذا التوجه قاضياً على ما تبقّى من البنى المؤسسية العامة، إضافةً إلى ما أصاب المؤسّسات الخاصة من مضار. وعليه، فبعدما أتت خطط الإعمار لتصوّر أن المسألة الأساسية هي الدمار المادي، تبيّن فيما بعد أن المقاربة كانت خاطئة، فالخسائر المادية لم تكن الأكبر بل بقيت أقلّ بكثير من الخسائر في رأس المال البشري وبشكلٍ أخص في رأس المال المؤسّسي.
دعوة لإعادة التفكير في بناء الدولة العربيّة
إذا نظرنا إلى الفكر الاقتصادي السياسي بحسب موقعه من المسارات التاريخية، تبرز نقطة التقاء جوهرية وإجرائية بين فكر «اقتصاد السوق الاجتماعي» وتطبيقه من جهة، ووضعية عدد من بلدان المشرق العربي، ولا سيما العراق ولبنان، وحاجتها إلى الفكر والتطبيق، من جهة أخرى، ألا وهي دور الفكر الاقتصادي السياسي في صياغة مشروع دولة ضمن ظروفٍ صعبة محدّدة. وتجدر هنا الإشارة إلى أن تأخر الفكر الليبرالي في ألمانيا ليس مجرد ظاهرة فكرية، بل هو يتّصل بتأخر ألمانيا عن ركب الدول الأوروبية الرئيسية على الصعيدين السياسي (توحّدت عام 1871) وإنّما الاقتصادي أيضاً، إذ لم تطلها الثورة الصناعية إلا بعد بريطانيا وفرنسا بقرنٍ كاملٍ تقريباً. ولا عجب بالتالي أن يكون الفكر الاقتصادي السائد فيها، حتّى الثلاثينيات (ويمكن القول على الرغم من الثلاثينيات) شبيهاً بالفكر الاقتصادي الذي غلب على دول العالم الثالث وعلى الدول العربية حتى الأمس القريب، ومحوره سعي الدولة الإرادي للتنمية بالاعتماد على الحماية والتوجيه المركزي.
على هذا الأساس تستحق نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» اهتماماً جديّاً من أبناء منطقتنا، لأنّها تعيد للدولة وللعمل السياسي موقعاً، نحن في لبنان وفي المنطقة، بأمسّ الحاجة إليه كي نستفيد نحن أيضا من 15 سنة حرب و15 سنة فشل في إقامة الدولة، نستفيد من ثلاثين سنة من التجارب المرّة تحاكي التجارب التي عاشتها ألمانيا في حربين عالميتين، دامتا معاً أكثر من أربعين سنة، فتمكّنت بعد ذلك من إقامة نظام ديموقراطي ومستقرّ. مع الإشارة إلى أن لا فكر يتراكم ويُصقَل ويفعل في الأحداث بغياب الدولة والمؤسّسات التي تدور في فلكها؛ فالدولة شرطٌ وشكلٌ لتأثير الفكر في المجتمع، وهي حاجة ضرورية، حتى لو غامرت بالحرب.
* اقتصادي لبناني، موقعه على الانترنت
www.charbelnahas.org
(من محاضرة أُلقيَت في ندوة نظمها المركز اللبناني للدراسات ومؤسسة كونراد أديناور في بيروت في 21 و22 حزيران / يونيو 2008، تنشرها «الأخبار» بالاتفاق مع مجلة «لوموند ديبلوماتيك ــ النشرة العربيّة)