حسان الزينلو لم يكن سمير جعجع هو سمير جعجع، لكان وضعه الشعبي والحزبي اليوم وغداً أفضل حالاً. الكلام ينطبق على أمين الجميّل. فالرجلان، كمؤسّستين سياسيتين، واحدة عائلية وأخرى أسرية ـــــ مناطقية، محكومان بماضيهما، ولا سيما لدى جمهورهما الأول. يدرك الرجلان «وضعهما». وعلى الرغم منه، وربما بسببه، اجتهدا لتلميع صورتيهما، واستطاعا في سنوات قليلة استعادة الكثير من وهج سلطتيهما ونفوذهما. خدمهما ميشال عون، شخصياً وسياسياً، في هذا الأمر. لكنّ الفضل الأول يعود إلى الطائفية الحربية والعنصرية المزدهرة التي يعرفان جيداً استغلالها، وهما ينتميان إليها. من دون أن يعني ذلك أن عون يقدّم «ثقافة» طائفية سلمية. فهو يمارس طائفية تقاسمية في المجتمع والسياسة والنظام. وهذه تنازعية إلى الحدود القصوى.
لقد تمكّن الرجلان، كلٌّ على طريقته، من الهجوم والإمساك بخيوط اللعبة، فيما كان عون، اللاعب في الساحة ذاتها، في موقع الدفاع.
أداؤه الشخصي والسياسي يتّسم بذلك: تبريري، متعالٍ، مزاجي، عنيف... والكثير من الصفات التي تجعله، بالنسبة إلى فئات واسعة، بين الصدق والكذب؛ تجعله رجلاً سياسياً، فيما «يُفترض» أنه مبدئي.
هما، جعجع والجميّل، من المدرسة الكتائبية ذاتها، لا يَشعران بالخسارة أو بالتراجع أو حتى الدفاع، ولا يُشعران من يستمع إليهما ويراهما بأنهما خاسران أو يتراجعان أو يدافعان. لا يقيّمان سياستيهما وماضيهما. لا يعتذران عن خطأ أو خطيئة. خدعة أيديولوجية ومشهدية يتقنانها ويمارسانها بسادية أنيقة.
أما عون، العسكري، فيكابر ويكابر حتى الفجاجة وانفضاح الادّعاء. هو يدافع، يقاتل، يغضب، يهين المختلف معهم ويستخفّ بالعقل والآخر. وهما يخطّطان ويهاجِمان ويكرّران كلامَ الآباء وسِيرهم ومشاريعهم. يبدو عون إزاءهما لا يعرف إلا لغة «أمر اليوم». وهما استراتيجيان، لا في السياسة بل في العناد الأيديولوجي والطائفي. قال إنه مدني وعلماني، فيما يؤدّي للعلى دورَ الزعيم الطائفي، ويتحالف مع «حزب مذهبي يمثّل مشروعاً إقليميّاً». أما هما، فما زالا على خطابهما ذاته، الكتائبي العتيق. يكرّرانه كثابت. يقدّمانه كبديهة لبنانية. خدعة أيديولوجية أيضاً، وانتكاسية في الوعي والسياسة. وهو انقلابي غادَرَ، في الظاهر وفي زعمهما، «الفكر اللبناني». وهما الثابتان على الأصول وفي المواقع القديمة دفاعاً عن الكيان والصيغة. هما مع تحالفاتهما الداخلية والإقليميّة القديمة، وهو مع «الأعداء» في الداخل والخارج. يبدو كذلك، وهما كذلك. يبدو إزاءهما قديماً، من أيام الدكتلو وتلفزيون الحزب الواحد الشمولي، تلفزيون الصوت الواحد وبثّ الشائعات التي تستهدف الخصوم وبلغة انتقائية شعواء عشواء. وهما بتقنيّات أحدث، تلفزيونية هي أيضاً، لكنها مواكِبة للجديد.
سمير جعجع الذي يناضل لاستعادة مؤسّسته «اللبنانية للإرسال»، وأمين الجميّل الذي عرف قيمة الصورة منذ فضيحة مشهده يمشي بالبدلة البيضاء فوق السجاد الأحمر عند البيت الأبيض؛ الاثنان جدّدا نفسيهما، صورتيهما، وفق اللحظة التلفزيونية السياسية الراهنة في لبنان والعالم. استعادة «المؤسسة اللبنانية للإرسال» أمر قضائي. كأنها كذلك بالنسبة إلى جعجع، الذي لا يبكي ولا ينوح عليها. وصورة الرئيس في البدلة البيضاء يتصرف معها الجميّل باعتبارها من الماضي والمكان البعيدين. يتجاوز جعجع والجميّل المأساة، ويلعبان اليوم كنجمين سياسيين. وبطل المسلسل، النجم، ليس بحاجة إلى امتلاك محطة تلفزيونية. التقط جعجع والجميّل هذه الإشارة، ومعها أنَّ المحطة التلفزيونية تبثّ ما تحتاج إليه، ما يَفرض نفسه، ما تنتجه هي، وتشتري مما تنتجه «الشركات». وهما يفهمان عقل الخصخصة، ومتمكّنان من لعبة النجومية، علماً بأن النجم الأول بينهما وبين عون، هو عون. يليه جعجع الذي حقّق، على هذا الصعيد، فارقاً وتفاوتاً بينه وبين الجميّل. فجعجع أكثر قدرة على إصابة لحظة تواطؤ مع «مُشاهد» من خارج جمهوره، فيما يُخفق الجميّل في ذلك، حتى ولو ضحك. فهو جامدٌ ومضجِرٌ، شكلاً ومضموناً. ولعلّه فهم ذلك فقدّم ابنه، سامي، الذي يأخذ من عمّه بشير مرجعاً كاريزميّاً، لكنّه لم يُختبر تلفزيونيّاً. ما زال أمين الجميّل شخصاً رديفاً حتى لابنه الصغير، كأن ما ساعده في الحرب مع عون هو عون وعوامل «خارج الصورة».
سمير جعجع وأمين الجميّل نجمان تلفزيونيّان. والسياسة باتت برنامجاً واقعيّاً. وحزباهما جمهور واقعي وإحصائي.
وميشال عون زعيم سياسي، شخصيته وكلامه وسياسته مادة السجال، وجمهوره الحصّة التي يجري التنازع عليها.
من يفوز؟
فليحيَ التلفزيون وبرامجه الواقعية الطائفية.