بول الأشقر *عنونت مجلة برازيلية أسبوعية أكثر رصانة، مقال غلافها بـ: «انتصار أحمدي نجاد مؤسف ولكنه على الأرجح حقيقي. تماماً مثل انتخاب نتنياهو». ولمن يهمه الأمر، هناك استطلاع رأي بمتناول الجميع (TFT-NAF Iran Survey Report) أجرته مؤسستان تدوران في فلك الحزب الجمهوري الأميركي Terror free tomorrow (ينتمي إليها جون ماكاين) وNew America Foundation (ينتمي إليها فرانسيس فوكوياما وفريد زكريا) في إيران بين 10 و19 أيار الماضي، وقد استطلعوا 1001 مواطن في 30 محافظة في إيران. كان هناك بالتأكيد استطلاعات أخرى (أجريت على الهاتف بصدقيات مختلفة) نشرت جميعها قبل الانتخابات وأعطت نتائج لكل الأذواق: في استطلاع «نادي الصحافيين الشباب»، نجاد تقدم أمام كروبي. في استطلاع جريدة «أيندي» الإصلاحية، موسوي متقدم في عشر مدن بفارق ضئيل على نجاد. أما إذاعة «إيريب» الرسمية، فوجدت موسوي متقدماً في العاصمة...
عودة إلى استطلاع الأميركيين الذي نُشر قبل الانتخاب والذي يتضمن معلومات مفيدة عن مزاج الشعب الإيراني وعن تناقضاته (كما هو طبيعي!) في مجالات أخرى أقرب إلى اهتمامات اللبنانيين (موقفهم من حزب الله وحماس، إسرائيل، النووي، أوباما، السنّة، المسيحيين، اليهود، العرب، ماذا يريدون من أوباما...).
انتخابياً، دلت نتائج هذا الاستحقاق على أن نجاد سيحصل على 34% من الأصوات في الانتخابات المنوي عقدها بعد شهر، أمام موسوي 14% وكروبي 2% ورضائي 1%.
7% أجابوا أنهم لا يؤيدون أياً من المرشحين و27% قالوا إنهم لم يحسموا بعد خيارهم و15% رفضوا الإجابة. في هذا الاستطلاع، يؤكد 89% من المستطلعين نيتهم المشاركة في الانتخابات. يبين هذا الاستطلاع أنه كان لنجاد لحظتها أكثر من ثلثي الأصوات (68%)، ولو صوّت كل المتردّدين والمتكتمين، فكان عليه أن يفوز بثلث أصوات هؤلاء لينجح من الدورة الأولى، وعلى 58% من أصواتهم ليحصل على النسبة التي أعطته إياها النتائج الرسمية.
أيضاً، حسب الاستطلاع، كان نجاد سينال 31% من ناخبي آذربجيان مقابل 16% لموسوي في مسقط رأسه. صدقت أيضاً الاستطلاعات التي أعطت موسوي تقدماً في طهران الإدارية (نال فيها حسب النتائج الرسمية 2،2 مليون مقابل 1،8 مليون لأحمدي نجاد) ولكن هذا الأخير فاز في ضواحي العاصمة بمليوني صوت مقابل مليون ونصف لخصمه.
نترك هذا الاستطلاع وننتقل إلى وثيقة منسوبة إلى وزارة الداخلية وقد أبرزها مساء 16 حزيران السينمائيان الموهوبان محسن مخمالباف ومرجان ساترابي في بروكسل، وهي تقول إن موسوي حصل على 19 مليون صوت أمام كروبي 13،4 ونجاد 5،7، ومجموع الأصوات، لو صح، يدل عن مشاركة لا تقل عظمة عن تلك التي تحدثت عنها الحكومة! وعلى المنوال نفسه، نشرت أيضاً «وثيقة» من المفترض أن رئيس الشرطة أرسلها لخامنئي لإبلاغه بأن موسوي قد فاز بالانتخاب!
فكّر موسوي، المعروف بمبدئيته وعناده، ملياً قبل أن يقبل دعوة خاتمي لكي يترشح، وأثبتت الظروف أن موسوي قدير على حمل طموحات الانتي ــــ نجادية. ولكن يبدو أيضاً أنه (ومعه الإصلاحيون) تجهز لتبوء الرئاسة (إذا نجح) وليس عبء المعارضة (إذا فشل). وبدلاً من أن يقول موسوي (ومعه الإصلاحيون) مثلاً حقّقنا نتيجة طيبة ــــ أكثر من ثلث الأصوات ــــ بالرغم من العوائق التي وضعت في وجهنا، وهي نتيجة تسمح لنا بالبناء عليها وبمتابعة المشوار، فضلوا البحث عن وحدة الحركة (أو الانجرار وراءها) بواسطة تهمة التزوير.
ولم يكن مفيداً لاستيعاب القيادة الإصلاحية حقيقة ما حصل انتخابياً لا قرب الصحافة الأجنبية ولا حيوية حركة الشارع ولا تقنيات الإنترنت ولا اهتمام الجاليات الإيرانية في الخارج.
لو لجأنا مرة أخرى لهذا الاستطلاع، لتلمسنا أن الإيرانيين في أيار 2009 (لو اكتفينا بالناخبين الذين سموا مرشحهم) كانوا يريدون نجاد بنسبة 68%، وفي الوقت نفسه، كانوا بنسبة 77% يؤيدون انتخاب جميع القيادات، بمن فيهم المرشد، بالاقتراع العام، مقابل 18% عارضوا هذا المنحى. هنا يتلخص جزء من المأساة الإيرانية وفرصتها الضائعة، فذلك يعني، إذا افترضنا أن جميع الإصلاحيين يطالبون بتغييرات ديموقراطية في هيكلية السلطة، أن نصف ناخبي نجاد على الأقل يؤيدون مطلب تعميق الديموقراطية.
أما العبرة الثانية، المأساوية أيضاً في الحالة الإيرانية، فتدل على أن الانتخابات ليست وحدها الديموقراطية: سبق أن ذكرت مسؤولية الإصلاحيين الذين تحضروا (جزئياً) لخوض لانتخابات لا لاحتمال الفشل، ولكن مسؤولية نظام الجمهورية الإسلامية أكبر بما لا يقاس بسبب فقدان الأطر الكفيلة ــــ وقد عمقت قيادة نجاد هذا المنحى ــــ لتقنين الديموقراطية وتنظيم تنفسها الطبيعي. وهنا لا بد من القول إن اللوم كله لا يعود إلى الجمهورية الإسلامية: المشكلة الأصل في إيران، بالرغم من عظمة حضارتها، أنها لم تعرف (حتى الآن؟) طعم الديموقراطية. أتذكر كلاماً لمعارض للشاه قبل 30 سنة قاله لي في طهران أياماً معدودة قبل عودة الخميني: «أكيد أنني أريد الديموقراطية، ولكني إذا رأيتها فلن أعرفها. كيف تريدني أن أعرفها ولم أرها مرة واحدة خلال آخر 2500 سنة؟». المشكلة الخاصة بالجمهورية الإسلامية هي تأرجح مصدر السلطة في دستورها بين الشعب وكل ما هو غير منتخب، لا بل معيّن من مصدر وحيد. الخلاف الإيراني في العمق يدور حول هذه النقطة بالذات: مصدر السلطة في الديموقراطية هو الشعب لا غير، وهو الثابت الوحيد. كل ما بقي متحول ويجب أن يكون «مطّاطاً» وفق موازين القوى. المقاربة المحافظة في إيران جعلت من «ولاية الفقيه» الثابت الأوحد، والباقي ــــ أي سلطة الشعب ــــ إن لم يكن متحولاً (وقد أجريت انتخابات بانتظام) فعلى الأقل «مطاطاً».
مرت الديموقراطية إلى جانب إيران الأسبوع الماضي، ولم تعرفها هذه الأخيرة. ولم يعمل أحد على الربط بين الـ62% الذين انتخبوا نجاد والــ77% الذين يؤيدون «الديموقراطية». لو كانت «ولاية الفقيه» هي «المطاطة» أي لو كان المرشد منتخباً (أو ذات صلاحيات رمزية لا فرق كما هي حال ملكة إنكلترا رأس الكنيسة الأنغليكية... أو امبراطور اليابان الذي يجسّد... صورة لله في المجتمع الياباني!)، لكان انكبّ بالتأكيد على صياغة تسوية حقيقية لا مجرد إعادة ترميم العلاقات بين أفراد الاستبلشمانت. بدلاً من ذلك، اكتفى خامنئي بتوصيف جميع المرشحين بأنهم «أبناء الثورة» وأنه «يعرفهم ويقدرهم» قبل أن «يهددهم»، فيما ردد نجاد لناخبي المعارضة بأنه «يحبّهم»، دون أن يعرف لا الواحد ولا الآخر اقتراح أي شيء ملموس عليهم. ما المقصود بتسوية حقيقية؟ على سبيل المثال، اعتراف المعارضة بنتائج الانتخابات يقابله اعتراف النظام بحقوق الأقليات السياسية وتوسيع الحريات المجتمعية. حتى أوباما الذي لا يحسد لموقعه ــــ هو محشور بين النظام الإيراني وبين معارضته وجاليته وإعلامه في الداخل ــــ فقد حاول أن يجتهد في الموقف، بدون نجاح يذكر، للتوفيق بين متطلبات متنافرة تحيط به.
في غياب أحزاب، حزب الجمهورية الإسلامية جمّد عام 1987 ــــ وما تفرع عنه «جمعية روحانيات مبارز» و«مجمع روحانيون مبارز»، وما تفرع عنهما يميناً ويساراً، ليست أحزاب بالمعنى التقليدي للكلمة، في أحسن الأحوال نواد سياسية ومؤسسات إعلامية ــــ صار موسوي أسيراً لـ«شارعه» ونجاد لـ«أجهزته».
الخلافات حول ما هو «أفضل للدين وما هو أفضل للسياسة» متفشية بين جميع فئات رجال الدين ومراتبهم (صعوداً حتى قم)، وهي مصدر غنى، ولكن كل هذا التنوع يذهب سدى وليس له مكان للصرف لا في الحياة الدنيوية ولا في الآخرة.
تأرجح الغرب من جهته بين دعم «حركة الشارع» والرهان ــــ حتى خطاب الجامعة ــــ على إمكانية التحاق خامنئي بالإستبلشمنت («كلهم قرايب في النهاية») للتخلص من «الغريب الوحيد» نجاد (دون أن تفسر لنا هذه النظرية لماذا سيلتحق خامنئي بمعسكر المهزومين!). وفي المناسبة، لو تبنى هذا المنحى، وفشل، لكانت إيران عندئذ دخلت في أتون الحرب الأهلية. في غياب الديموقراطية والأحزاب، موسوي ونجاد لا يلتقيان بالرغم من وجود تقاطع مصالح بين ناخبيهما لأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين. هذه مأساة إيران. تخطت على الأرجح الحرب الأهلية، وصار أكثر ما يمكنها أن تطمح إليه الآن هو أن يكون «بحر الدم» محدوداً أو إعادة تكوّن جزئية لصفوف الإستبلشمنت ومصالحه (لأن الأزمة لن تنتهي مع خروجها من الشارع). للأسف، لن تحدث «معجزة إلهية» لبلورة أسس الديموقراطية، الوحيدة الكفيلة باستيعاب الجميع كما هم، حتى في إطار الجمهورية الإسلامية.
* من أسرة الأخبار