من يرَ جمانة مرعي في جلسات النقاش أو ورش العمل متحدثة بطلاقة وبصوت مرتفع عن حقوق المرأة، فلن يعرفها مرتبكةً أمام آلة التسجيل التي ستروي عبرها جزءاً من مسيرتها في «النضال النسوي». نضال لم يغيّر كثيراً، لكنه خطوة في مسيرة نهايتها الحتمية: المساواة
مهى زراقط
«لم نغيّر شيئاً... ما تقهريني». هكذا يبدأ الحديث مع جمانة مرعي. تقول هذه العبارة تعليقاً على توضيح لمضمون المقابلة التي ستتناول عملها في الحركة النسوية في لبنان، ولا تعود إليها إلا في نهاية الحديث، محاولة تبرير سبب عدم القدرة على التغيير في أوضاع المرأة «ليست الحركات النسوية فحسب من يتحمل المسؤولية، بل النظام السياسي الطائفي في البلد الذي منع التغيير على أكثر من مستوى».
مرعي هي المديرة التنفيذية في التجمع النسائي الديموقراطي اللبناني، منسقة عامة لمنتدى النساء العربيات، ومنسقة أنشطة المعهد العربي لحقوق الإنسان في لبنان. مجموعة من المهمات تجعلها بعيدة عن المنزل، وعرضة بالتالي لانتقادات ابنتيها اللتين «تملكان حساً نسوياً، لكنهما ليستا مناضلتين بالضرورة»، تقول عنهما ثم تستدرك بقولها: «ربما لأنهما لا تشعران بالتمييز الذي يمارس بحقهما».
لكنها أيضاً لم تكن تتعرض للتمييز في البيت، كما تقول، ورغم ذلك انخرطت في العمل النسوي. ربما بسبب «الوعي النسوي الذي امتلكته باكراً»، وذلك عندما تحمّلت والدتها مسؤولية إعالة العائلة المكوّنة من ستة أفراد خلال فترة توقف فيها الوالد عن العمل. لا تغرق مرعي بالتفاصيل في خلال حديثها عن عمل الوالدة وظروف المنزل آنذاك، بل توضح فكرتها بجمل مدروسة تجعلها أقرب إلى محاضرة عامة من حديث عن شأن خاص: «اختلاف دور المرأة التقليدي داخل البيت يرتّب حتماً تغييراً في نظرة الأولاد إليها. أمي كسرت الأدوار النمطية. تحملت مسؤولية وربّتنا على التفكير في كيفية بناء أنفسنا بأنفسنا».
من خلال الوالدة تعرّفت مرعي أيضاً إلى التجمّع النسائي، إذ كانت ترافقها إليه لتشاهد فرق الدمى وتتعلم الإسعافات الأولية «وبطريقة غير مباشرة كانت مفاهيم حقوق المرأة تترسّخ في وعيي». لكنها لم تحسم خيارها بالانخراط جدياً في العمل النسوي إلا في الجامعة. آنذاك صُدم بها أصدقاؤها الذين عرفوها ناشطة سياسية في أحد الأحزاب اليسارية. «قيل لي إن العمل السياسي قد يكون أهم، ما ولّد عندي ردة فعل أقوى ضد أشخاص كنت أفترض أنهم مؤمنون بقضايا المرأة وأشعرتني ردة فعلهم بعدم وجود خيار جذري لديهم بموضوع المرأة، عندها تمسكت أكثر بخياري وبدأت أعمل في هذا المجال».
لا حادثة معينة دفعتها إلى ذلك، تؤكد، «لكنه الجو العام الذي تسيطر فيه نظرة دونية، شئنا أو أبينا، إلى النساء». تعطي أمثلة بقولها: «أذكر أني عندما كنت في المدرسة كنت أشعر بالتمييز لأني درست الرياضيات في الثالث الثانوي. كان عددنا نحن الفتيات قليلاً، فكنت أسمع كثيراً من يقول: شوفوا عم يدرسوا رياضيات. أما الأصحاب فكانوا يتساءلون: لِمن تُردن إثبات تفوقكن؟ وكأن علم الرياضيات للذكور لا للإناث».
«قسمة الأدوار» هذه انسحبت على الجامعة، حيث درست مرعي إدارة الأعمال، وفي السنة الأخيرة لاحظت أن معظم الفتيات اتجهن نحو المحاسبة، فيما اختار الشُبّان إكمال التخصص في الإدارة «أنا درست الإدارة ثم المحاسبة ومارست الأولى أكثر من الثانية».
لكن خيار الدراسة ليس جزءاً من «تمرّد» جمانة الدائم أو تشبثها بآرائها، ما جعل صفة «القوية» ترافقها منذ الطفولة. «هذا هو الانطباع الأول الذي كنت أتركه لدى الآخرين. طفلةً، كنت أضرب الأولاد، وشابة تحملت مسؤولية البيت مع أمي، ما جعلني أحظى بنوع من السلطة التي لم أوفرها» تقول ضاحكة. عموماً، تقول إنها كانت صاحبة رأي يؤخذ به «كنت أواجه وأقول لأ». أبرز هذه اللاءات قرار زواجها برجل ينتمي إلى طائفة دينية مختلفة. «كسرت تابو. اخترت زوجي، قررت ومشيت من دون رضى الأهل». صفة المرأة القوية لم تزعج زوجها، الذي عاشت معه زواجاً غير تقليدي، «لأنه كان زواجاً تشاركياً في كلّ شيء، وهذا يعني أن زوجي لم يكن يبحث عن امرأة ضعيفة، لا تستطيع المشاركة. هذا قراره. يريد امرأة عندها القدرة على المشاركة». وهذا أيضاً ما يجعلها واثقة من أن الناس «يقبلونك كما تقدمين نفسك لهم. على عكس كثير من الفتيات اللواتي أعرفهن، يقدمن أنفسهن كما يريد الآخرون».
انصياع الفتيات لهذه الصورة تضعه مرعي في خانة «العنف الرمزي، وهو أخطر أنوع العنف الممارس بحق النساء»، لافتة إلى أن عملها مع النساء جعلها تكتشف أمراً بالغ الأهمية، إذ «كثيرات من النساء لا يعرفن أنهن معنّفات. كنا نواجه مشكلتين رئيسيتين خلال لقاءاتنا معهنّ: كيف نجعلهنّ يعرفن أنهن يتعرضن للتعنيف، وكيف يفصحن عن هذا العنف. أذكر أني مثلاً كنت أواجَه بنساء يرين ضرب الزوج لهن حقاً من حقوقه عليهن». تركز مرعي على مشكلة العنف لأنه المسؤول عن استمرار التمييز ضد النساء، مشيرة إلى أن كسر الصمت عن العنف تجاه النساء على مستوى العالم إنجاز حققته الحركات النسوية.
لكن هذه الحركات عجزت عن إحداث تغيير حقيقي في مواضيع بديهية، ولا سيما على مستوى القوانين التي «تمس بالكرامة الإنسانية للنساء» تقول مرعي. برأيها «النساء أثبتن أنفسهن وتفوقن في العديد من المجالات، لكن كلّ مجال فرضت فيه المرأة نفسها كان نتيجة جهود جبارة. لأن كلّ شيء حولنا هو بعكسنا وبعكس طموحنا. المرأة تتفوق، صحيح، لكنها تبذل جهداً وطاقة لتثبت جدارتها، فيما تكون الأمور تحصيلاً حاصلاً للرجل الذي لا يخوض معركة إثبات نفسه يومياً».
هذه المعركة اليومية سببها التمييز الذي يرتبط بنظرة المجتمع وبالقانون أيضاً: «المرأة اللبنانية مظلومة بقوانين الأحوال الشخصية، سواء في الزواج، الطلاق وحتى الإرث. قانون الجنسية يميز ضدها، وقانون العمل لا يساوي في التقديمات الاجتماعية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جرائم الشرف، الاغتصاب والزنا. ومن البديهي الإشارة إلى أن القوانين لا تشجع المرأة على المشاركة السياسية، علماً بأننا حاولنا كثيراً إقرار الكوتا، وأطلقنا حملة وطنية لإصلاح قانون الانتخاب الطائفي الذي لا يتيح لنا الوصول». مؤكدة أهمية وصول نساء إلى المجلس النيابي «بالتأكيد سنحدث فرقاً إذا كانت النساء يحملن قضايا المرأة. عندها ستكون الأنانيات والمحسوبيات أقل، وإمكانات فضّ النزاعات موجودة أكثر، وهذا ما تؤكده العديد من الدراسات عن دور النساء في الحقل العام».


دور الشباب

توافق جمانة مرعي على ملاحظة غياب العنصر الشاب عن العمل النسوي. لكنها تشير إلى أن الشباب باتوا غائبين عن مجمل العمل العام. «ألمس نفَساً قصيراً عند كثيرين منهم. لا ينتمون إلى قضايا عامة، وهم مغرّبون عن حقوقهم الخاصة. يفكرون بالقضايا المادية بما هو طاغٍ على غيره. وفيما كان التطوع سمة جيلنا، بات اليوم كلّ شيء بأجر».