كنتُ في ما مضى عصفوراً ذا بطنٍ أبيض ناعم. لكنّ أحدهم جاء وذبحني ربما لأنّ منظر رأسي المقطوع يُضحكه لا أعرف. (ألدا ميريني)
أحمد محسن
دعوني أخبركم شيئاً يا أصدقائي. عندما كتبت الشاعرة الإيطالية ألدا ميريني هذا الموت، أعلاه، لم يكن في بالها أنّه ينطبق على الحزب الشيوعي اللبناني. كان ذلك في ثلاثينيات القرن المنصرم. كان الحزب في بداياته عصفوراً أحمر، يخوض في مواسم الأيديولوجيات المتكاثرة. كان زمناً جميلاً، كما تخبرني أمي، رغم وحشية الإقطاع وأنيابه البارزة على نواصي الطرق. في الحديث عن الزمن الشيوعي القديم، يصعب علينا، كشباب، سرد شكل من الحياة لم نَعِشْه، لكن، يسهل علينا اليوم وصف الحزب في نَعْشِه.
الذاكرة لا تستطيع الطيران. تختار الأسهل دائماً. لا يتوقف الأمر على شيوعيين لبنانيين شبّان، ذاكرتهم مقيّدة بالوحل الطائفي والكولونيالية اليومية. الذاكرة الغربية أيضاً قد تنسى أسماء جمّة، مثل بيكاسو وأراغون، وربما لوركا وبابلونيرودا، ويحلو لها أن تتذكر سولجينتسين وميلان كونديرا مثلاً. هذا أمر مرير، لكن علينا تقبّله: من لا تحفظ أسماءهم إلا المكتبات المختصة، كانوا روّاد الأدب الأحمر. أما اللامعون، أو الذين أريد لهم أن يلمعوا، فبعضهم الكثير ممن انقلبوا عليه، وكانوا محقّين في ذلك. أوّلهم في ذلك كان الكاتب والمحارب ألكسندر سولجينتسين. قضى شهوراً على الجبهة الروسية الشرقية. كان مقاتلاً حقيقياً ضد الفاشستية الواضحة. تنقّل بين المنافي، وانتهى واحداً من أشد أعداء الشيوعية. ميلان كونديرا يبكي القلب في وصفه الدبابات السوفياتية حين سحقت براغ، في خفة الكائن التي لا تحتمل. إذا حذفنا المقاطع التي يصف فيها كونديرا عظام مدينته تنتحر أمام عينيه، يمكن تصنيفه على خفته، الشيوعي الأول. لكنّ الذاكرة لا ترحم. وعلى هذا المنوال، ليس غريباً، هنا في لبنان، أن يتحول عدد كبير من أركان الشيوعية الكلاسيكية ـــــ المفرطة في كلاسيكيتها ـــــ الى نيوليبراليين، يواظبون على حماية الله من ألسنة الفقراء الذاهلة. لا ضير في أن ينال الحزب الشيوعي 2% من أصوات اللبنانيين، إذا فهمنا جيداً أن قانون انتخابات نسبياً ليس لمصلحة الحزب الشيوعي، أكثر مما هو نوع من الرأفة بالرقعة التي مزّقتها الطوائف.
المشكلة في ذاكرتنا، ولا تتعلق بفرز بعض الصناديق. الانتخابات ليست أكثر من هزيمة جديدة. تغيّرت منطلقات الشاب الشيوعي، فلم تعد دراسته وافية للصراع الطبقي. أصبح صورة نمطية فارغة. صورة لا يُرى فيها إلا اللحية الطويلة ورسوم غيفارا الذي ذبحه الانحطاط الإعلامي الشيوعي. أسهم الشيوعيون، مع جلاديهم، في تحويل الاجتهاد الدائم إلى موضة. وهنا، لا مفر من القول إن النتائج لا علاقة لها بقانون الستين البغيض. النتائج مرتبطة بالذاكرة الجماعية أيضاً، التي ينضح فيها مهدي عامل شهيداً، وتُقصى فيها جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عن واجباتها.
هذا المقال يعدّ مسروقاً، بعد النقد القاسي للحزب الشيوعي. أتخيّل المنتقدين ينزعون المنجل الأصفر بأيديهم عن العلم، ويحصدون الهزائم الحمراء بطيب خاطر. أقولها، وقلبي يعتصر ألماً: هذا ليس زمانك. على الحزب الشيوعي أن يعترف بذلك.