للمساهمة في صفحات الرأي، انقر هنا

إيلي شلهوب
انسحب المحتجون من شوارع طهران (بفعل القبضة الأمنية)، وبقي الجمر يستعر تحت الرماد. أخلى صخب الاحتجاجات المكان لهدوء الحوار. استعاد طرفا الصراع لغة التفاوض، المباشر أو بالواسطة، على أمل التوصل إلى تسوية يدرك الجميع أنها ستكون أقل كلفة من الاحتكام مجدداً إلى الجماهير والعسكر. صراع جذوره بنيوية بات واضحاً أنه يتجسّد في شخصين: المرشد علي خامنئي (الذي رمى بثقله خلف نجاد) وهاشمي رفسنجاني (خلف موسوي). كل منهما يمثل مجموعة من البنى الاجتماعية ـــــ الاقتصادية، ويحتضن تحت عباءته أطيافاً سياسية ـــــ دينية تجمعها رؤية مشتركة لإدارة الحكم وكيفية مقاربة الملفات الخارجية.
نزاع بين صديقين تحوّلا إلى خصمين بحكم موقعيهما. علاقة تمتد إلى عقود خلت، منذ جلسا جنباً إلى جنب على مقاعد الدراسة في النجف، التي جاءاها من مواقع طبقية مختلفة: رفسنجاني سليل عائلة إقطاعية فاحشة الثراء، فيما ينحدر خامنئي من عائلة فقيرة (يقال إنه كان يستدين من رفسنجاني لدفع الأقساط الحوزوية). جمعهما التديّن والعداء للشاه، والثورة الإسلامية التي كانا من أقطابها. احتلا أبرز موقعَين بعد الإمام في إيران الخمينية: خامنئي رئيساً للجمهورية، ورفسنجاني رئيساً لمجلس الشورى.
ومع وفاة الإمام، أدّى رفسنجاني دوراً مركزياً في انتخاب خامنئي مرشداً فيما تولى هو رئاسة الجمهورية وتقاسما السلطة لثماني سنوات (حكم الدويكا). لم يكن خامنئي قد أصبح مرجعاً بعد (كان لا يزال مجتهداً)، وكانت الحوزة تعج بآيات الله العظام، فما كان منه إلا أن اعتمد «سياسة الاستيعاب» حيال قم والإقطاع والبرجوازية، وكان بينهم معادون للثورة وتوّاقون لعودة النظام الشاهنشاهي. عمل على تعزيز نفوذه السياسي (وخاصة عبر جذب الجنرالات العائدين من ساحة الوغى) والديني بتصديه للمرجعية عقب وفاة المراجع الأقدم منه في قم.
في المقابل، عمل رفسنجاني على «إعادة بناء» ما بعد الحرب مع العراق (وضع الحجر الأساس لمئات المشاريع التي استكملتها الحكومات اللاحقة) من دون أن يتخلى عن المشاركة في إدارة الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل (متهم بأنه صدّق عملية بوينس آيرس). وكان الطرفان راضيين.
جاء عام 1997 وخرج رفسنجاني من الرئاسة، لكنه بقي في السلطة. حكم إلى جانب خامنئي ومحمد خاتمي (في ما عرف بحكم الترويكا)، على الأقل في السنوات الأولى من عهد الإصلاحيين. لكن تهم الفساد التي طالت عائلته خلال سنوات حكمه كانت قد أرهقته شعبياً إلى حد أنّه عجز عن الفوز بمقعد نيابي عام 2000، فأعيد الاعتبار إليه بتوليته رئاسة مجمع تشخيص مصلحة النظام في 2002. وبقي «الاتفاق الصيغة» سارياً.
إلى أن خرج نجاد من اللامكان ملحقاً هزيمة نكراء برفسنجاني في انتخابات 2005، أتبعها بسياسة شعبوية تنحاز للفقراء، وبحملة على الفساد مرفقة بسياسة خارجية أضرت بمن أضرت من تجار البلد وأثريائه. الضربة الأولى لـ«الاتفاق ـــــ الصيغة»، لم توفّر قم نفسها التي أهملها نجاد، فكانت بداية تحييد رفسنجاني عن الحكم، وإن كوفئ بمنصب فخري آخر (رئاسة مجلس الخبراء).
مرّت الولاية الأولى لنجاد بسلام، وجاء وقت التجديد مرفقاً بتصعيد ضد رفسنجاني، الذي رأى في ولاية ثانية نهاية لحياته السياسية، وخاصة أن الرئيس سعى جاهداً خلال السنوات الأربع الماضية إلى قصّ أظافر آل رفسنجاني في إدارات الدولة، ويتوعّد بالتصعيد، فكان ما جرى خلال الأيام الماضية، ولا يزال.
صراع بين أعدقاء يُترجم في السياسة بعناوين عديدة، في مقدمتها حدود ولاية الفقيه. وفي ذلك مدرستان: قائل بصلاحيات مطلقة يستند إلى مبدأ «الكشف الإلهي» (وقوامها أن الله يختار المرشد ويعبّر عن إرادته هذه بواسطة إنسان)؛ وينتمي هؤلاء إلى المنادين بنظرية الحكم الإسلامي، حيث تستمد السلطة شرعيتها من الله، وقائل بالصلاحية المقيدة يستند إلى نظرية الاختيار عبر الانتخاب؛ وينتمي هؤلاء إلى المنادين بنظرية الجمهورية الإسلامية حيث تستمد السلطة شرعيتها من الشعب.
وهناك أيضاً عنوان اقتصادي، وفي ذلك مدرستان: تنادي الأولى بتوزيع أكثر عدالة للثورة، تؤدّي فيه الدولة دوراً مركزياً، مع تشديد على تنمية الأرياف وطهرانية في الأداء بخلفيات دينية. أما الثانية، فتطالب بلبرلة السوق وخصخصة الاقتصاد والتركيز على تنمية المدن، والعمل على رفع العقوبات الدولية التي أرهقتها.
يضاف إلى ذلك عنوان يتعلق بـ«الدور والوظيفة»، وينقسم إلى مدرستين: الأولى مهدوية الخلفية كربلائية الممارسة تنتصر لجميع «المستضعفين» ضد «الشيطان الأكبر». يحتل الصراع مع إسرائيل مكاناً مركزياً فيها (مع حل الدولة الواحدة). تسعى إلى تنمية الأذرع الخارجية لإيران وتوسيع نفوذها الإقليمي بهدف جعلها دولة عظمى. البرنامج النووي فيها قضية حياة أو موت، نظراً لما يستتبعه من قدرات ردعية وامتيازات سياسية واقتصادية.
أما الثانية، فبراغماتية تنادي بالحوار والانفتاح على الغرب وإقامة علاقات مع أميركا وحصر الإنفاق بالداخل. شعارها «لا لبنان ولا فلسطين، إيران أولاً» (وقد رُفع خلال «الثورة الخضراء»)، مع دور أكثر تواضعاً لإيران، وترضى بحل الدولتين في فلسطين. وترى أكلاف البرنامج النووي أكبر من فوائده...
ما جرى في إيران (على مستوى آلية الحكم) ليس سوى تصدع في «الاتفاق ـــــ الصيغة»، الذي يبدو العمل جارياً على إعادة إنتاجه وفقاً لموازين القوى المستجدة.