بيسان طيصباح الخير يا بيروت، صباح النسيم الذي يتسرّب قبل الصباح إلى قلوب المتسابقين مع الشمس، هي في الأفق تشق طريقها لتسطع فوق البحر. وهم يحاذونه، يحتلون الكورنيش الممتد على المنارة، بين تمثال جمال عبد الناصر، ومفترق الطرق، المثلث الذي يقودنا إلى الروشة أو مقهى الروضة، أو يعيدنا إلى الحمرا. المتسابقون مع الشمس غرباء. لا أحد يعرف اسم أحد، هنا. مهما عجلت في موعدك الصباحي، فستجد من سبقك إلى الكورنيش، وإن وصلت عند الخامسة فجراً.
لا أحد يعرف اسم أحد هنا، لكنك إن تسللت إلى مجموعة «الرياضيين» فستصير بسرعة وجهاً مألوفاً بينهم، ستندمج بسرعة في تلك المجموعة الغريبة، صورة مصغرة عن لبنان. ركز نظرك في الوجوه، ستلمح وجهاً لمحلل تشاهده على تلفزيون المنار، يمشي بسرعة منتصب القامة، خلفه يركض مثلاً محلل اقتصادي مقرّب من تيار المستقبل.
المحجبات ليس لهن شكل واحد، تلك التي تمشي بثياب رياضية، هناك من تمشي بثياب رياضية ألوانها زاهية، وأخرى تلف «معطفاً» فوق زي الركض، وثالثة بثوب impermeable... ورابعة، رابعة محجبة شديدة الأناقة تتجاور في مشيتها مع رجل أنيق، لو كان من دونها لاعتقد أنه ينتمي إلى طبقة أرستقراطية لا تتحدث اللغة العربية، هو أيضاً يطعم كلامه باللغة الإنكليزية، يبدو أستاذاً جامعياً، أو مهندساً أو...
ثم يأتيك «رف» الرجال الكبار، قامات ممشوقة رغم مرور السنين، يخطون بثقة، الشورت الطويل ثوبهم اليومي، رائحة مستحضر الغسيل تفوح منهم رغم العرق والتعب.
أما الصبايا، فلهن في الكورنيش أحوال ومقامات، رياضيات ملتزمات بأصول المشي السريع، يتصبّبن عرقاً، أخريات بأجساد «منحوتة» وماكياج صباحي «يتغندرن» بخفة، الـmp3 أو mp4 رفيقهن، النظارات الشمسية مثبتة تخفي نظراتهن المتفحصة لكل الرجال. الكورنيش صباحاً أشبه بلبنان مصغر، الكل يلتقي هنا، يأتون لتأدية وظيفة واحدة، وظيفة المشي (أو الركض) حفاظاً على أجسامهم من غدر الزمن والبدانة. نساء ورجال في العقد الثاني أو الثالث... أو السابع.
يسحرك منظرهم يمرون أمام عينيك، تراقب تجولهم كسرب عصافير تهاجر ثم تعود... تهاجر ثم تعود. ثم تنتبه إلى الكسالى، أولئك الذين يحتلون المقاعد أو الملاصقين للـ«درابزين». أولئك وحدهم يشذون عن قانون الصمت، يتهامسون، يتبادلون النظرات أو يسترقون السمع لما تردّده متسوّلة خمسينية، تردّد الشتائم لمن لا يعيرها اهتماماً، تقول «السوريون يأخذون مال البلد، وأنا بتستكرو عليّ شوية مصاري».
لكن الكورنيش صباحاً هو خاصةً جنة «السباحين» جيران البحر وعشاقه، هم أيضاً يهرعون إليه، لا يكترثون لرمل مفروش لخدمتهم، ولا يهتمون لأناقة بعضهم، قد تسمع أحدهم يصرخ «شو أبو خالد تأخرت اليوم»، تلتفت لترى رجلاً في العقد الثامن، ابن عين المريسة هو أيضاً لم يخلف موعده الصباحي مع البحر إلا نادراً. يركض، يركب الموج، ثم يرتمي في دائرة السباحين، كباراً وشباناً وصغاراً...
تترك الكورنيش والبحر، تنسحب من صخب صباح المنارة، لتغرق في صمت أحياء العاصمة الأخرى.
كأن الكورنيش وحده يستفيق في هذا الوقت المبكر تاركاً كل الأحياء الأخرى تغرق في النوم، في الكسل، وفي مربعات الباطون التي تجتاحها...