كامل جابر
تطلب منه موعداً في بيروت، فتجده في بيت الدين، ثمّ في صور، بعدما غدت المهرجانات واسم غازي قهوجي صنوان. كيف يستطيع هذا الرجل أن يجد متّسعاً من الوقت لكل ما يقوم به؟ من كواليس المهرجانات وصالاتها، إلى مسارح واستديوات لبنان وأوروبا والولايات المتحدة، تجد غازي قهوجي مديراً أو منظّماً أو مصمّماً أو مهندساً. تفتح الراديو («الإذاعة اللبنانية» و«صوت الشعب») فتسمع نقداً أو خاطرة تهكّمية بصوته. تقلب صفحات بعض الجرائد، فتجد مقالة ممهورة باسمه. يتنقل من جامعة إلى أخرى، مدرّساً مادة فن الديكور والتصميم المشهدي والسينوغرافيا وتاريخ الأزياء في الجامعة اللبنانية و«الجامعة اليسوعية».
في مدينة صور الساحليّة الجنوبيّة، ولد قهوجي عام 1945. لا شيء يفوق حبّه للبحر: «نحن أولاد الساحل كالسلاحف، تفقسنا أمهاتنا ونتوجه بالفطرة نحو المياه لنقتحمها بجرأة». لهذا تراه سبّاحاً ماهراً، شارك في العديد من السباقات، وهو مولعٌ بالصيد البحري، عنده عُدَّة صيد في كل بلد يذهب إليه. في المقابل، يكره صيد الطيور: «قلت مرة لمنصور الرحباني: في شعرك يا منصور ترد نحو مئة مرة كلمة عصفور، مرة بمعنى الطير وأخرى بمعنى الريش وثالثة بمعنى الطيران؛ وعلى وجبة واحدة أمامي، أكلت مئة عصفور... يعني أنّك أكلت كل العصافير التي كتبتها! قلت عنه وقتذاك في مقالة: الشاعر الذي أكل دواوينه».
البحر إذاً، ترعرع بين أمواجه وآثار مدينة صور. هنا تكوّنت رؤاه: «كنّا أحياناً نتراشق بالأصداف التي لفظها البحر، ونحن لا ندرك أنها أصداف الموركس، روعة الصباغ الأرجواني». صور بالنسبة إليه ليست جغرافيا، بل هي الناس والصيّادون والحرفيون وكل ما تحويه من أطياف دينية ومذهبية تمثّل نموذجاً لبنانياً فريداً. «أفتقد الرمل في صور.
ذاك الرمل كان يميّز شاطئها الممتد من أول المدينة حتى رأس الناقورة. الأبنية العشوائية احتلته بعدما عمَّت الفوضى أيام الحرب اللبنانية. سألوني مرة عن الإكثار في استخدام اللون الأزرق في عملي، قلت أحمله معي، كأنني أحمل مدينتي: هذا الماء وهذه السماء».
نشأ «القهوجي» في بيئة قومية عربية. كان والده شاعراً تهكّمياً يمتلك مكتبة ضخمة. والدته كانت «من أوائل المتعلّمات في صور». من ملاعب «الكلية الجعفرية» كان ينطلق ورفاقه إلى التظاهرات، رافعين شعارات العروبة والدفاع عن فلسطين. تلك الثانوية الوحيدة في الجنوب، ضمّت طلاباً من مختلف مناطق جبل عامل، وأيضاً من أبناء الفلسطينيين الذين قدموا إلى المدينة بعد نكبة 1948. يتذكر أنه كان من الناشطين في الخطابة والمسرح أيام «التلمذة» ورافقه هذا الارتباط بالفنّ طيلة حياته.
انتقل الفتى غازي إلى ثانويّة «المقاصد» في صيدا عام 1961... ثم دخل الشاب المتحمّس إلى «الجامعة اللبنانية» في بيروت ليدرس العلوم السياسية والإدارية. في عام 1966، انطلق إلى العاصمة البلغارية ليمضي ست سنوات متخصصاً في علم السينوغرافيا.
باب الحظ كان مشرّعاً على مصراعيه للعائد من صوفيا: «أنا من المحظوظين، لأن بداياتي كانت مع الرحابنة وفيروز. لم أصعد السلم درجة درجة، بل بدأت من القمة». ذلك أنّه عاد يومذاك بتخصص جديد وغريب عن لبنان ومسارحه. «لم يعرفوا هنا كيف يترجمون كلمة سينوغرافيا إلى اللغة العربية. اقترحت عبارة التخطيط المشهدي، أو كذا وكذا، ثم أبقينا أخيراً على كلمة سينوغرافيا، ودخلت في القاموس المتداول».
كتب عنه الراحل عصام محفوظ (1939 ـــــ 2006) مقالة في أواخر 1972، فاسترعت انتباه منصور الرحباني الذي أرسل في طلبه. كانت الجلسة الأولى كفيلة باستمرار التعاون 22 عاماً، انطلاقاً من مسرحية «لولو» عام 1972 ثم تباعاً في مسرحيات «المحطة» و«بترا» و«المؤامرة مستمرة» و«ميس الريم» و«الربيع السابع»، وإعادة لمسرحية «الشخص» في الأردن، فضلاً عن مجمل الأعمال الغنائية والاسكتشات المتنقلة. يقول اليوم بفخر: «أعترف بفضل الأخوين الرحباني عليّ، وأشهد أنني تعلّمت منهما أكثر بكثير مما تعلمته في الجامعة. كان صدرهما يتسع للحوار والنقاش والتأويلات والقراءات. وقد قال الرحابنة أكثر من مرة: غازي قهوجي أحدث نقلة نوعية في المسرح».
عمل كذلك مع زياد الرحباني في جملة من مسرحياته «نزل السرور» و«بالنسبة لبكرا شو» و«فيلم أميركي طويل». كما عمل على مسرحيات نبيه أبو الحسن كـ«أخوت شاناي»، وجملة من أعمال يعقوب الشدراوي وروجيه عساف وعبد الحليم كركلا وفهد العبد الله وجواد الأسدي وفايق حميصي ونجدة أنزور وغيرهم... إضافةً إلى عشرات المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية، منها فيلم «ناجي العلي» (1992) للسينمائي المصري عاطف الطيب بطولة نور الشريف، و«التقرير» (1986) لدريد لحام ورغدة.
يجد أن ثمة فرقاً بين صور الولادة وبيروت العمل. «بيروت لها فضل على الجميع... لقد أفردت لي مقعداً وانطلقت منها عملياً. قيل دائماً: لا يمكن أن تنجح في عمل ما، روائياً كان أو مسرحياً، إن لم تعبر في بيروت. هذه المدينة هي التي تمنح شهادة حسن السلوك وبراءة الذمة».
كتب في ريعان الشباب، في ملحق «النهار» يوم كان الشاعر أنسي الحاج مسؤولاً عنه. لكنّ العامل الذي دفعه إلى الكتابة دورياً كانت علاقة الصداقة التي جمعته بالناشر رياض نجيب الريّس. يوم أصدر الأخير مجلة «الناقد» في لندن في تمّوز (يوليو) 1988، طلب إليه أن يكتب مقالات ساخرة وتهكمية وناقدة، ثم شجعه بعدها على نشر مقالاته كلها في كتاب. فكان كتابه الأول «قهوجيات ـــــ أركيلة الحلم العربي» عام 2003؛ ثمّ «قهوجيات ـــــ ما هبّ ودبّ» عام 2005، وأخيراً «قهوجيات 3 ـــــ عرب الصابون» عام 2007.
من أين له موهبة الكتابة والتهكّم والأسلوب الساخر؟ يعتقد أن الجزء الأكبر ورثه «عن الوالد الذي كان شاعراً تهكّمياً. لم يكتب إلا هذه الأمور خالطاً العامية بالفصحى ليزيد من منسوب التهكّم. كان أبناء مدينته يلقبونه بـ«الأستاذ»، على الرغم من أنّه لم يكن متعلّماً في مدرسة». ويضيف غازي: «وأعتقد أيضاً أن معايشتي للرحبانيين أثّرت فيّ؛ فضلاً عن كون طبعي ينحو في هذا الاتجاه، والكتابة عندي موقف ورأي، وأحافظ دائماً على أن يصل موقفي للآخر عبر بسمة لا من خلال دمعة».
ويمضي: «سُئلت مرة: بما أنك تشتغل في مجال المسرح والسينما والتلفزيون، فلماذا تكتب؟ في إشارة إلى مقالاتي الأسبوعيّة التي لم أنقطع عنها منذ سبع سنوات. قلت: أنا أكتب لأصبح قارئاً جيداً». نتركه إلى مشاغله، في زحمة الإعداد لموسم الصيف في صور... وفي بيروت... وحول العالم.


5 تواريخ

1945
الولادة في صور (جنوب لبنان)

1972
عاد من صوفيا متخصصاً في فنون السينوغرافيا

1974
صمّم ديكور مسرحية «نزل السرور» لزياد الرحباني

1995
أسهم في تأسيس «اللجنة اللبنانية لمهرجانات صور والجنوب»، وتولّى إدارتها الفنية. وبعدها بتسع سنوات، قلّده رئيس الجمهورية وسام الاستحقاق اللبناني

2009
يُعِدّ عملاً عن الشهيد أحمد ياسين