كان عمري أربع سنوات عندما خرج والدي من المنزل ولم يعد. أمي تحاول أن تذكرني كيف خرج ذات مساء عام 1984، ليحضر لنا ملابس العيد ولم يعد
ايمان بشير
كان عيد الأضحى، وانتظرناه، لكنه غاب عنا حتى اليوم. ثلاث وعشرين سنة. أنا لا أذكر والدي راشد شحادة (الصورة)، ولا أذكر تلك الحادثة رغم تكرار أمي وجدتي لها مرات عدة. لا أذكر تلك الحادثة، مع أنها غيرت مجرى حياتي بالكامل حتى أصبحت ضائعاً بين لقب «ابن الشهيد» أو «ابن المفقود». لم أكن أريد أن أنادى إلا باسمي، اسمي وحده. لا ابن شهيد ولا ابن مفقود. لكنني كدت أن أكون شهيداً بنفسي. فالرصاصة التي اخترقت ضلعي، كانت مجهولة بالكامل، لأنني لا أذكر متى أطلقت وفي أي صراع وبين من ومن، إضافة إلى أنني لم أكن المقصود بها، بالطبع. كانت مجرد رصاصة طائشة، اهتدت إلي. كل ما أذكره، هو رواية أمي للحادثة التي كادت تصيبها بالسكتة القلبية وأنني كنت أصرخ «كول هاد من بيغن وريغن»! أما لماذا؟ فالله اعلم.
لم أستشهد، لكن الكثيرين يسألونني عن أبي. «مين قتل أبوي يّما؟» أسألها دائماً، فترد دائماً: «بعرفش، ناس بيقولو اليهود قتلتو... ناس تانيين بيقولو شافوه عند «المحرومين»... وغيرن بيقول شافو القوات (اللبنانية) عم بيطلعوه بجيب عسكري على باب المخيم، وربك أعلم إذا كان بعدو عايش عند «الأخوان» إسه». جواب الوالدة من النوع الذي لا تستطيع أن تأخذ منه لا حق ولا باطل. سألت الناس من الجيران والمعارف والأقارب عنه لعل أحدهم رافقه إلى باب المخيم أو غادر معه في ذلك اليوم الذي لا أذكره، لكن حارس المخيم كان يجيبني بما يبعدني عن أية أفكار سوداء قد تخطر في بالي: «صلاتك وصلاتن واحدة خيّا، وربك وربن نفسه بالسما، لإيش هاد الخرّاف (الكلام)؟». سألت وسألت حتى سئمت، وقررت أن أمضي تاركاً ما بقي من والدي مجرد ذاكرة للنسيان، لعلي أنجح وأنسى..
«إطلّع لبرا يا حيوان! بكرا مالكش فوتي على هيدا الصفن ومش رح تفوت تتجيب أبوك معك»، هكذا طردني الأستاذ من الصف لإحداثي أعمال شغب برمي «فتيشة» بين أقدامه في حصة الرياضيات التي كنت أكرهها! «بعرفش وينو أستاذ!»، أجبته بكل طبيعية. لكنه لم يصدقني، (معه حق بعد الفتيشة) «عم تستهبلني يا ولد، إذا أبوك ما عرفش يربيك أنا رح أربيك»، توعدني. فما كان مني ألا أن أجبته بكل صدق وإخلاص: «لأ ما عرفش يربيني، ما قولتلك يا أستاذ، بعرفش وينو»!
أما حين قررت «الاستفادة» من وضعي هذا، وتقديم طلب إلى الجامعة «كابن شهيد»، لعلي أحصل على منحة دراسية أو خفض في رسوم التسجيل، فإني أذكر تماماً كيف اصفرّ وجه السكرتيرة عندما حاولت إقناعها بأن لا شهادة وفاة لوالدي حتى الآن، وأن الوالدة لا تزال «تبوس إيد فلان وعلّان» لتحصل على خبر واحد عنه، حتى نعرف ماذا سنفعل. لم تفلح المسكينة، مع أنها تعاطفت معنا، في إقناع الإدارة على الأقل بالنظر في وضعي. ما اضطرني للتسجيل في الجامعة الرسمية وفي اختصاص لا حول لي فيه ولا قوة.
وعلى الرغم من اتخاذي قراراً بالمضي في سبيل لا يشبه سبيله في الضياع، ما زلت ضائعاً بين نكران الواقع المفروض والحلم بأنه موجود. لا يزال حاضراً ولو أنني لا أعرف أين. أحس بوجوده يراقبني، أو يحرسني، لدرجة أتوقع فيها أحياناً أن ألتفت فأراه خلفي كمفاجاة سارة، يبتسم. اسمه موجود في معاني كل الأسماء، قصته تشبه العديد من قصص المفقودين، ما يعزيني أنني لست الوحيد. صورة زفافه لا تزال معلّقة على الحائط في منزلنا، لا يلبس بدلة عسكرية ولا يحمل بندقية، كان مجرد لاجئ.