علي الشهابي *لا شك في أن فوز 14 آذار في الانتخابات كان ساحقاً، ومفاجئاً للمعارضة خاصة. وقد تم هذا الفوز برغم قصقصة الدوائر الانتخابية وإعادة دمجها بالشكل الذي فرضته المعارضة في الدوحة، لا بفضلها. لذا يحق للموالاة القول إنه تفويض شعبي لنهجها وسياستها، وخصوصاً إن أمسكت بالسيد حسن نصر الله من لسانه الذي أكّد مراراً أن الصراع في لبنان سياسي وليس مذهبياً ما دام كل من المعارضة والموالاة فيها عناصر من كل الطوائف. وفي المقابل، يحق لحزب الله أن يقول إن هذه الديموقراطية طائفية، وكل الأمور الأساسية في لبنان لا تتم إلا بتوافق الطوائف؛ مما يعني أن كل ما سيحدث في لبنان يجب أن يحظى على الأقل بموافقته هو وحركة أمل.
هذا ما سيطفو على سطح أيديولوجيا الموالاة والمعارضة، لكنّ الضحية الحقيقية لهذه الأيديولوجيا كانت وما زالت الديموقراطية المدنية، غير المعادية للدين ونقيض «الديموقراطية الطائفية». وتتجلى حقيقة هذه الضحية عبر نهجهما الذي أجهز على مشروع بناء الدولة ومشروع المقاومة.
فالموالاة لا تعرف من مشروع بناء الدولة إلا القضاء على الميليشيات وحصر السلاح بيد الدولة، مما يعني أنها تتذرع ببناء الدولة لتجرّد حزب الله من سلاحه. وفي المقابل، فإن وسيلة حزب الله لرفض ديموقراطيتها الانتقائية تقوده دوماً إلى التمسك بالديموقراطية الطائفية، برغم أن هذه الديموقراطية هي التي تجعل مشروع المقاومة مستحيلاً. فالطوائف لا تواجه عدواً خارجياً واحداً بل لكلٍ منها عدوّه، لتكون محصلة علاقات القوى في ما بينها تكاد دوماً تساوي الصفر. مما يعني أنه لا يمكن بناء الدولة في لبنان أو أن يأتي ظرف يقود فيه حزب الله باقي الطوائف اللبنانية لمحاربة إسرائيل، إلا إذا هاجمته هي كما جرى عام 2006. وحتى بهذه الحال سيدافع وحده، مستنداً أساساً إلى طائفته، لتكون أدوار باقي المتعاطفين معه من الطوائف الأخرى أقرب إلى الكومبارس.
أعتقد أنه كان هناك إمكانية لبداية السير الجدّي على طريق حل هذه المعضلة من خلال التيار الوطني الحر، وتحديداً عبر الجنرال ميشال عون، طوال الفترة التي امتدت منذ عودته، حتى طرحت على بساط البحث، مشكلة خلافة لحود. لقد صار قبلةً لأعداد كبيرة من الديموقراطيين المدنيين بمجرد إعلانه أنه ضد الطائفية التي تقوم عليها السياسة والمجتمع في لبنان، وفي الوقت نفسه ظل جمهوره المسيحي ملتصقاً به. ووقع مذكرة التفاهم مع حزب الله، دون أن ينفضّ عنه. لكنه شيئاً فشيئاً، عاد إلى المنحى الطائفي جرياً وراء طموح شخصي ليصير رئيساً؛ فتكرّس زعيماً طائفياً. فماذا ينفع لبنان أن يصير زعيماً مسيحياً تماماً كما سعد الحريري زعيماً سنياً أو جنبلاط وأرسلان زعيمين درزيين أو نبيه بري وحسن نصر الله زعيمين شيعيين، وبغض النظر عن الفوارق السياسية الهائلة بينهم، لأن الطوائف، ممثلة برموزها، لا يمكن إلا أن يمر حين تختلف فيه إلى حد التناقض.
ومهما يكن، سواء توافرت الفرصة وقتها لبداية شق طريق الديموقراطية المدنية أم لم تتوافر، فلا بد بداية من العمل على شقه بقوة ما دامت المحاصصة الطائفية لا تبني دولة ولا مقاومة؛ والأهم ليس فيها غالبية شعبية، لا مع المقاومة ولا ضدها، بل فيها فقط أغلبيات طائفية تفرمل سير البلد بأي اتجاه. فإذا كان الشعب نفسه غير موجود، فكيف ستكون هناك «أغلبية شعبية»؟
إنّ غياب الشعب اللبناني حقيقة قائمة منذ أمد بعيد، وكل ما فعلته الانتخابات الأخيرة أنها كشفتها فقط. صحيح أن السيد حسن نصر الله قال في أعقابها إن «الأغلبية الشعبية» صوّتت للمعارضة، لكنّ كلامه لا يمكن الجميع قبوله كحقيقة لأنه طرف غير محايد. ومع ذلك تؤكد افتتاحية الـ«فايننشال تايمز» في 15 حزيران 2009 صحة كلامه بالقول إن تحالف المعارضة اللبنانية «نال ما يتجاوز 53 في المئة من أصوات الناخبين». ولا يهزم أي تكتل سياسي في العالم بهذه النسبة إلا في لبنان، لأن الشعب اللبناني لا وجود له في ظل الوجود السياسي للطوائف. فالموجود فقط طوائف تبدو أحياناً متآلفة، لكنها في الحقيقة مرغمة على العيش بعضها مع بعض، قل إلى جانب بعضها بعضاً، تماماً كحبات البطاطا في الكيس.
وحتى لا تظل هذه حال اللبنانيين، وحتى يصير لبنان وطناً، على الديموقراطيين المدنيين أن يتكتلوا على نقطة واحدة وحيدة تتمثل بالعمل من الآن لخوض الانتخابات المقبلة تحت شعار «إلغاء الطائفية السياسية مدخلاً لوحدة الشعب وبناء الدولة».
هذه النقطة يمكن أن تصير برنامج عمل عبر التوجه إلى اللبنانيين بالقول: سنخوض الانتخابات المقبلة على أساس القانون الانتخابي الطائفي الراهن، وبقدر ما تنتخبون منا بقدر ما نتمكن داخل المجلس النيابي من فرض تغيير دستوري يلغي الطائفية السياسية. لسنا مع المقاومة ولا ضدها، لا مع إسرائيل وأميركا ولا مع سوريا وإيران... ولا ضدها. كل هذه الأمور وغيرها ستنشط بها الأحزاب السياسية، وسيقررها الشعب اللبناني بعدما يصير بالإمكان معرفة رأي غالبيته عبر الانتخابات.
هذا المطلب، يمكن أن يتآلف عليه العامل المسحوق مع رب عمله، إن اقتنعا بتضررهما من الطائفية السياسية. وكذا حال نصير المقاومة وعدوها اللدود، والمؤمن بالله والملحد، والشيوعي والليبرالي، والمقتنع بضرورة المساواة بين الجنسين ومن يعتقد أن للمرأة حدوداً ينبغي ألا تتعداها...
بعدما تُلغى الطائفية السياسية يصير بالإمكان معرفة موقف غالبية الشعب اللبناني من كل الأمور، ويصير قرار أغلبيته قراراً وطنياً، بغض النظر عن ماهيته. عندها، وعندها فقط، تصير هناك أغلبية تحكم فعلاً وأقلية تعارض فعلاً. وحتى ذلك الحين سيظل لبنان، كما يقول مهدي عامل، «يتكرر ولا يتغير».
* كاتب فلسطيني