حمزة منصورلا يثمّن الإنسان النِعَم ويستلذ بقيمتها إلا بالحصول عليها واستملاكها. هذا ما حصل لصديقنا الذي ترك بلده لبنان وهاجر إلى إيطاليا، بلاد النعم والفرص، وقضى فيها سنوات طوالاً تملّك فيها جنسيتهم التي كانت أولى نعم الغيث الهابطة عليه من السماء المباركة والتي منحته الشرف الطلياني، فصار طليانياً أكثر من أهل روما ونابولي أنفسهم.
تملّك صديقنا المهاجر هذا والمجنّس اللاحق ذاك الفضول اللبناني المزروع في موروثاته الجينية، فراودته العودة إلى الوطن الأول لبنان ليشاهد بأمّ عينه ما فعله به الزمان، وإذا ما أصابته لعنة التحضّر وعدوى التكنولوجيا ونهم المال.
وصل صديقنا هذا إلى الموطن الأم لبنان وانتقل إلى قريته الوادعة النائمة بين جبلين منحدرين أخضرين مكسوّين بالصنوبر والريحان.
بعد أكثر من شهر على عودته ومعرفتنا بوصوله، اتفقنا والأصدقاء على زيارته في قريته تلك، واتفقنا على أن نقضي معه يوماً كاملاً نمتّع آذاننا وأعيننا وأحاسيسنا بجنة النعيم في قريته، التي لم تستطع نعم إيطاليا المباركة أن تمنحه واحدة مثلها.
توجهنا إلى حيث يقيم، فاستقبلنا حيث ودّعناه منذ عشرين عاماً في باحة دار عرّشت على جدرانه العرائش وأحاطت بها شجيرات الفل الأنيقة. إنه جزء من عالم سحري موجود في لبنان، تناسته ألسنة الحرب وآلات الجرف ودسائس السياسيين ولعنة التحضّر. وبسرعة البرق، وبعدما حطت بنا الأقدام في أرض الدار، تناول صديقنا الحديث لدرجة اعتقدتُ معها أنه كان أسيراً لدى الحلفاء وأنه ممنوع عليه الكلام، بدأ صوته يعلو وإشارات يديه (تعلو) وبصوت رخامي إيطالي أطلق (محبوسيّته) الأولى: أهذا هو لبنان؟ طبعاً لم يكن يقصد مهاجرنا قريته الوادعة التي تحتضننا الآن، لكن ما قصده هو ما عبّر عنه في (محبوسيّته) الثانية: لا الكهرباء كهرباء (شرارات) ولا الماء ماء (تلوث) ولا مياه الأمطار (التي نقيم الدنيا ولا نقعدها إذا لم تمطر) أمطار، فالبحر دائماً في الانتظار. ولا الطرقات طرقات (ترهات) ولا الاقتصاد اقتصاد (انحصار) ولا التجارة تجارة (فجارة) ولا السياحة سياحة (نياحة) ولا التعليم تعليم (تعليب وتقليم).
وقبل أن يكمل صاحبي (المفتوحة شهيته) على الموائد اللبنانية حديثه، قلت له: لنترك يا صاحبي السياحة والزراعة والصحة والتعليم، فهذه لها في موطننا ساستها المبدعون، ولنتكلم في موضوع مغاير، موضوع الساعة والساحة البرلمانية، أي الانتخابات اللبنانية، هل هي كالإيطالية وريثة موسوليني والفاشية؟
فردّ صاحبي: سأعرض عليكم كيف تجري الانتخابات في إيطاليا: يقدم المرشح برنامجه، عارضاً وواضعاً فيه أهدافه (بل أهداف ناخبيه) الذي يقع عليه واجب تحقيقها وتنفيذها قبل انتهاء مدة عضويته. من أهم تلك الأهداف الموضوعة: تحديث الجامعات والمعاهد، زيادة ميزانية المختبرات العلمية، الحد من تلوث البيئة، تحديث الصناعية والزراعة، السياحة على القمر والمريخ، الاستنساخ، القضاء على الأمراض الخبيثة، التفكير بمصادر أخرى للطاقة، رفاهية الفرد وسعادته.
نعم يا صديقي، هنا يسكن المنطق الأعمى وسحر التنويم المغناطيسي والإيحائي، تنويم لم يألفه أو يعرفه (فرويد أو شاركو) ولو عرفوه لما تخلّوا عنه ولجأوا إلى التحليل النفسي. نعم يا صاحبي، هنا التنويم له نكهة أخرى وشكل آخر، فحتى لو استيقظ هؤلاء العباد من سباتهم، فلن يدركوا أنهم كانوا واعي الحال والفعال، ولَعَدّوك أنت، سيّد استيقاظها، لعدّوكَ النائم والحالم والدجال.
لأن حالهم (العباد) كحال أصحاب (كهف أفلاطون)، ظهورهم للخلف ووجوههم للأمام، لا يرون من حركات الأشخاص الحقيقية، التي هي من خلفهم، لا يرون إلا انعكاساتها وظلالها على الجدران الأمامية المحدقين والمسمّرين إليها. حتى لو فنيتَ العمر في إقناعهم بأن تلك الظلال ليست إلا ظلالاً وسراباً لما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً، ولعدّوكَ حاقداً جاحداً مزوّراً للحقيقة، وهذا هو يا صاحبي حال عبادنا في ربوع وطننا.
إنه الخواء السياسي بأوسع وأبهى صوره وحالاته، فهل أعجبتكَ مشاريع مرشحينا الانتخابية أو لسان حالك يقول ألف رحمة على الضحية؟