بيسان طيكان الصوت يخرج واثقاً، حاداً... يقول الراكب في المقعد الأمامي «نحن أكبر مجموعة في البلاد، هذا ما أثبتته الانتخابات، أعطيناهم رئيس الجمهورية، معليش! ولكن قائد الجيش يجب أن يكون منا». اقتربت صديقتي لتتعرف إلى ملامح صاحب «الطرح الفذ»، فاجأها وجهه الصغير. شواربه لم تُخطّ على وجهه بعد، أنفه في مرحلة التحوّل، دققت كثيراً لتلمح «وبرات» قليلة منتشرة في ذقنه. سألته عن عمره، فأجاب بحزم وثقة وعنفوان «13 عاماً».
المسألة لم تنته عند هذا الحد، ارتبك السائق. سألها عن طائفتها، راح يقول جملاً متقطعة عن التعايش والنموذج اللبناني... أما الصبيّ «السياسي» فلم يرفّ له جفن، تابع «مطالعته السياسية عن التوازن الطائفي» و«إعطاء كل طائفة ما تستحقه وفق حجمها». لم يقبل ابن الـ 13 عاماً النقاش، كان يطرح أقواله وكأنها حقائق علمية مطلقة غير قابلة للجدل أو الاختبار.
الصبي ليس متديناً كما يقول، هو يرتاد مدرسة «فرنكوفونية» أقساطها «خيالية»، ويطعّم كلامه السياسي بالكثير من التعابير الإنكليزية.
ابن الـ 13 عاماً مشغول بتوزيع الحصص بين الطوائف، يفكر بقيادة الجيش ولأية طائفة تكون، يدافع بتعصب أعمى عن انتمائه الطائفي، وهو بالتأكيد لا يفقه في الدين والمذاهب شيئاً. يعبر من خلال التكلم بالإنكليزية عن «انتمائه للعصر». المشهد مخيف، لنقل على الأقل إنه يبعث على مزيد من القلق.
مشهد آخر يمكننا أن نقع عليه في مختلف الجامعات في لبنان، أساتذة جامعيون، ونقصد هنا المثقفون منهم فقط، هؤلاء الأساتذة يشكون أداء تلامذتهم الذين يرفضون الاطّلاع والتعمق في ما يدرسون، طلاب يرفضون أن يطرحوا الأسئلة، لا يتنبهون إلى الفروقات بين المتناقضات، لا يحفظون معلومات مهمة تتعلق باختصاصاتهم، وقد سبق أن تعلموها في المدرسة. بعض الأساتذة يشكون انشغال الطلاب بالشائعات، إنه عصر الـgossips، وهي مصدر الأفكار والانشغالات وفروضهم الجامعية، هؤلاء قد ينتفضون فقط إذا طرح الأستاذ معلومة تتناقض مع «معطياتهم» الطائفية أو المذهبية.
بين المراهق المهتم بالتوزيع الطائفي والطلاب الجامعيين «الجدد» علاقة مهمة، أو لنقل إنه شكل من الارتباط. هم صورته «المستقبلية»، شبان اعتنقوا ما قيل لهم عن عظمة الانتماء الطائفي، وتفوّقه على الانتماء الوطني أو القومي، وكرهوا الثقافة وفعل البحث والمثابرة للتعلم. هذا ما نعرفه، ندركه مسبقاً، ولكنّ ثمة تساؤلاً يلحّ في هذا الإطار. ما الذي جعل المراهق ينشغل بالطائفية عن ألعابه؟ عن أحلامه؟ عن الصبايا؟ عن الدروس؟...
كيف صار موضوع سياسي، يعكس تعصباً أعمى، أولوية في انشغالات صبي في مرحلة عمرية تُسمى بـ«أزمة المراهقة»؟ بدل أن يطرح أسئلة تتعلق بتحولات يشهدها جسده، فإنه يسأل عن تحولات سيئة لم يعشها الوطن.
ما الذي يجعل طلاباً جامعيين مستسلمين لكل ما يقوله الأساتذة و«الكورات» المختصرة؟ ما الذي يجعلهم منشغلين في آن واحد بالشائعات العامة وبالمعتقدات الطائفية؟
لماذا تسيطر صورة قاتمة عن الجيل الجديد الذي تربّى بمعظمه في أحضان أهالي يحملون الشهادات، وقد عايشوا صعود تيارات علمانية؟