لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

نهلة الشهال
اليوم تنسحب القوات الأميركية من المدن العراقية. لكن الحدث المهمّ يقارَب بطرق كلها، من دون استثناء، إشكالية. ليس في العراق فحسب بل في المنطقة العربية والعالم. وليس إعلامياً فحسب، بل في مجال التحليل أيضاً، مما يثبت قوة قانون الاستهلاك! فالعراق لم يعد على الموضة، وقد حدث اعتياد وجود الاحتلال كما سقوط مئات القتلى والجرحى في عمليات انتحارية تتصاعد وتائرها أو تخفت حسب «الطلب». طلب من؟ ها قد عدنا إلى قانون الاستهلاك. في لبنان، سقط قتلى وجرحى منذ يومين لأنه كان «مطلوباً» وقوع توتير حاد للأجواء. في العراق، تنفّذ عمليات تفجير، بل عمليات انتحارية، خدمة لأهداف تبدو أكثر فأكثر غامضة، أو قل غير قابلة للتصريح والحمل العلني. سيقال: هكذا هي السياسة. والأرجح أننا نشهد انحلالها، بمعنى تحولها إلى «حرتقات» حتى وإن عظمت. في العراق، يُقتل الناس بالعشرات برهاناً من هذا الطرف أو ذاك على أنه موجود ومؤذٍ، أو على أنه يجب أخذ مصالحه في الحسبان، أو على أنه قادر على العرقلة، إلى آخر الأسباب. ولكن، في مقابل هذا، لا تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام البلورة التي لا غنى عنها لتصورات الأطراف المختلفة بشأن ما يجري، طبيعته ومداه، بشأن المتوقع غداً، وبشأن المرغوب فيه. ومن باب أولى، والحال تلك، ألّا تتبلور التقاطعات، وأن يستحيل الحوار الذي يمهد للوصول إلى توافق وطني يمكن أن يشد لحمة البلد ويمنع انزلاقه إلى التفكّك، عنفياً كان أو هادئاً. ذاك كان استطراداً للتمييز بين السياسة والسياسة، بين الحرتقات وإن أحرقت بلداً، وعملية البناء الوطني مهما بلغت صعوبتها...
اليوم تنسحب القوات الأميركية من المدن العراقية، وهي المرحلة الأولى من خطة الانسحاب الشامل، الذي يفترض به أن ينتهي في نهاية 2011 حسب الاتفاقية الموقعة. هل ثمة مَنْ ما زال يأبه بالاتفاقية تلك التي أسالت حين توقيعها حبراً كثيراً؟ أم أن حروبنا تقع في وقتها ثم ننتقل إلى سواها من اللهوات، وننسى ما جرى البارحة. يفترض (مجرد افتراض) أن تتشكل القوى السياسية العراقية وفق ضرورات ملموسة، منها مثلاً التعاطي مع اللحظة بمعناها التاريخي، وهو توصيف ينطبق على الاتفاقية الموقّعة، وعلى الانسحاب الجاري اليوم. ولكننا نجد حكومة السيد المالكي مهجوسة بالاحتفال بالحدث عبر إعلانه عيداً (؟)، وعبر نشر الزينة وتسيير المواكب الصاخبة، وإقامة الحفلات الغنائية والشعرية... وهي محاولة لمصادرة الحدث ونسبته إلى نفسها. ولكن الأخطر من ذلك أن هذه المقاربة المتّسمة بالمبالغة في وصف الجاري على أنه «استعادة للسيادة»، ومعاملته كذلك، تضيع الموضوع وتسهّل التعامل معه خارج السياسة. وهي تماماً حال من يمارس تصغير شأن الحدث، ويعدّه «شكلياً»، بذريعة أن القواعد التي ينسحب إليها الأميركيّون تقع على بُعد بضعة كيلومترات من المدن المخلاة، وأنهم سيستمرّون في السطوة على الموقف عبر نفوذهم، وسيستمرون في شن الهجمات العسكرية حين يقرّرون ذلك. وثمة من يمعن أكثر في نزع السياسة عن الواقع وإرسال هذا الأخير نحو عالم «الخطابات المبدئية»، فيقول إن الاستعمار لا ينسحب، ويكفّر من يخطر له ذلك، وإن الأميركيّين ـــــ الذين يقفون في عرف هذا الرأي وراء التفجيرات كلها للحفاظ على الشعور بالحاجة الماسة إليهم ـــــ لن يغادروا العراق، وإن انسحابهم من المدن ليس إلّا مناورة حتى تعود الجموع تتوسّلهم للعودة (مما يفسر تصاعد التفجيرات)! ليست خلاصة هذا الكلام الدعوة إلى تبني موقف وسط! بل توظيف هذا الحدث، أو على الأقل التساؤل عن كيفية توظيفه في ما يمكن أن يخدم تحقيق عراق موحّد متحرر من الاحتلال. هذا على افتراض (مجرد افتراض) أن هناك إجماعاً على اعتبار تلك هي الغاية العليا لأي طرف سياسي عراقي... بغضّ النظر عن الخلافات في العقيدة السياسية أو الفكرية أو الاقتصادية، وهي بالطبع مشروعة.
اليوم تنسحب القوات الأميركية من المدن العراقية في ظل كل هذا مجتمعاً: تخطيطها للحفاظ على أكبر قدر من الهيمنة دون دفع كلفتها، وتخطيطها لاستثمار الاتفاقية أكثر ما يمكن لمصلحة واشنطن في الحاضر والمستقبل، ومعرفتها أن التشكّل الوطني السياسي العراقي ما زال ضعيفاً بعد كل تلك الأهوال، وأن هناك تجاذبات قاسية على السلطة (منها المسألة الكردية العصيّة، ومنها الصراع السني ـــــ الشيعي، ومنها تدخّلات المحيط) وأن هناك مصالح تكوّنت في فترة الاحتلال، وهي قنابل موقوتة...
فما هي فاعلة القوى السياسية العراقية؟ ذلك هو السؤال الذي يفترض به (مجرد افتراض) أن يضبط الحدث، ويعطيه معناه ويحدّد له سياقاً. من غير ذلك، وفي ظل انفلات الـ«لاسياسة» على هذه الشاكلة، يفعل الأميركيّون فعلاً ما يشاؤون!