عباس ناصر *صفّقوا له... صفقوا لأنفسهم... صفقوا للصورة التي جمعتهم. في الواجهة رئيس سن من عهد قديم، قديم في الحياة، وقديم في البرلمان والسياسة، عفواً «الباكوية». إلى جانبيه العضوان الأصغر سناً، من العهد نفسه أيضاً. حفيدة غسان تويني وابن بشير الجميل، هكذا يعرفان. رئيس السن، هكذا عرّفهما أيضاً. عندما وقف والده مكانه كان جد الآنسة مكانها. وعندما وُلد الذي إلى يساره كان يبارك للوالد بالوريث الجديد للنسل والعائلة والحزب وربما الوطن. هكذا افتتح الجلسة، وهكذا ختم رئيس السن كلامه السياسي. لهذا صفّقوا له. صفّقوا كثيراً، صفّقوا لأنفسهم، صفّقوا للصورة التي جمعتهم.
بينهم وبصمت، جلس صديقي. يحصي مشهداً آخر يحس فيه بالغربة، أو هكذا هيُّىء لي.
غربة أصبحته، مذ فتح عينيه على عالم لا أب فيه، وإنما عائلة تطالبه بالثأر ممن قتله. منطق لم يرفضه في ذلك الوقت بوعي مثقف، وإنما بنبوغ فطري جعله يفهم للمرة الأولى ما معنى أن يكون الإنسان غريباً بوعيه عن أهله.
نعم، نشأ صديقي في حي «المصبغة» في الشياح، ونعم لم يولد لعائلة أورثته السياسة مع ملعقة الذهب، ولا لعائلة أورثته الثقافة واللغات الأجنبية... لكنه كان يمشي كل يوم من بيته في الشياح إلى خندق الغميق وإلى خنادق كثيرة، حيث يمكن أن يشتري كتاباً، عفواً يستعيره، لأنه لم يكن يستطيع أن يشتري كل ما يتضور إليه نهمه للمعرفة... لم يعرف يومها أن هذا كان سيؤخذ عليه في يوم من الأيام، حين جلس في صفوف من لم يفترض أن يكون بينهم في مجلس النواب.
يشبهني ذلك الجالس هناك، ويشبه أصحابه الذين كان يلعب معهم في الحارة، والذين للمرة الأولى، وجدوا أنفسم يقولون: كنت ألعب مع ذلك الجالس في البرلمان. بالنسبة إليهم مجرد معرفة رجل تصوره الكاميرا شأن عظيم.
ذكّرني صديقي بنضالي مع مدرسة صغيرتي «لين». كنت قد أخذت على نفسي أن أدخلها أفضل مدرسة في لبنان. ظننت أنني بذلك يمكن أن أحجز لها مكاناً مع من يفترض أنهم «كبار».
جهدت لأُدخلها مدرسة الكبار، لكنني فشلت. «sorry ما في إلها مطرح، فأهلها مش خريجين هاي المدرسة» تقول لي المديرة. إنها الدوّامة نفسها، يجب أن تكون ابن العائلة، كي تستمر حياتك مع الكبار، وإلا فأنت غريب. هكذا في الطائفة وهكذا في المجتمع، وهكذا في المدرسة أيضاً.
ولأن الطبقات السياسية في لبنان مقدسة، إما بمشروعية العائلة، أو بمشروعية الطائفة، أو مشروعية المال الذي يشتري النفوذ، والنفوذ الذي يجلب المال، يصبح صديقي مرة أخرى غريباً.
لم يأت الهجوم عليه لأنه مارس حراكاً طبقياً، فهذا مسموح به في لبنان إذا جاء في إطار الطائفة التي كلما تخلت عن زعامة عائلة ما، صنعت لنفسها طبقة سياسية جديدة تحاكي الصيغة نفسها. هوجم لأنه خرج عن إطار طائفته دون أن تكون له مشروعية العائلة المقدسة. فغُلِّف الهجوم السياسي باستحضار طبقي. استحضر اسمه الذي كان سيبدو جزءاً مقبولاً من هوية طائفية مناطقية، لو لم يخرج عنها.
واستحضر الحي الفقير الذي خرج منه، واستحضر حتى يتمه. يتمٌ كان سيجعله ابن الشهيد لو أنه ولد لعائلة أخرى، دون أن يضطر أحد إلى التدقيق في سبب القتل.
لا مكان مرة أخرى للخيار الفردي، ومرة أخرى، يشبهني ذلك الجالس هناك. لا لأنني أتفق معه في السياسة، فذلك مبحث آخر (ومنعاً للالتباس أجزم أنني لا أتفق معه في السياسة)، ولا لأنني أدّعي أنه صعد للبرلمان بمشروعية فردية أو برنامج تغييري... فذلك مبحث آخر أيضاً. بل لأنه مذ كان يمشي ذلك الطريق من الشياح إلى خندق الغميق تحت شمس حارقة، كان يحلم بأن تأخذه معرفته إلى مكان آخر... مكان أقل غربة.
أكتب اليوم لأقول له: لو لم تقلع في رحلتك هذه لما عرفوك ليرجموك، وما كنت أنا لأجد صفحة أقول لك منها، أنك لست غريباً تماماً. إنك تشبهني يا صديقي.
* إعلامي لبناني