علاء اللامي *اللوحة القاتمة التي رسمناها في مناسبة سابقة عن تردي مظاهر الحياة اليومية في العراق المحتل، قد تتناقض للوهلة الأولى مع ما سنتوقف عنده اليوم بخصوص الحالة المعنوية والسلوكية العامة لأهالي بغداد، بعدما عاشوا مرحلة الاقتتال والاستقطاب الطائفي السياسي المرّة، التي تفاقمت خلال السنوات الثلاث الماضية. لكنه ليس تناقض التضاد والتعاكس الكلي، بل هو في عمقه نوع من التكامل أو الامتداد الذي يتجلى في حيازة الإنسان ميزة مقاومة البؤس المادي وفرادتها، وكل إفرازات الاقتتال الطائفي السياسي العنيف، والتغلب عليه معنوياً وأخلاقياً.
بهذا، تكون المناقبية الاجتماعية والسلوكية لبغداد وأهلها نتيجة وامتداداً لقسوة الظروف التي مر بها هذا الإنسان ذاته.
عُرِف البغداديون تاريخياً بالعديد من الصفات السلوكية والمعنوية الإيجابية، شأنهم في ذلك شأن أهالي الحواضر والعواصم الإمبراطورية الكبرى، كأثينا وبكين وروما، ومنها حب الحياة والتعلق بمظاهر الرفاهية والاهتمام اللافت بالهيئة الخارجية والهندام الشخصي والرهافة والنعومة («البغددة») في التعامل، والطلاوة التي تقارب الغنج في الكلام، إضافة إلى الاستقامة واحترام الغريب والإسراع لتقديم المساعدة والنجدة إلى الآخر. إلى جانب هذه الباقة من الميزات، عرف أهالي العواصم الإمبراطورية، ومن بينهم البغداديون، بصفات أخرى لا تحتسب على هذا الغرار، كالذاتية وسرعة الانفعال والتبذير والغرور والعناد البالغ أحياناً درجة العجرفة.
قد تمثّل هذه اللوحة ملامح قديمة وباهتة في حالة بغداد المعاصرة، لأنها فارقت ماضيها الإمبراطوري «العباسي» منذ قرون عديدة، وتحولت في العهد العثماني إلى مجرد ثكنة عسكرية تركية يقيم فيها، إضافة إلى مَن بقي من أهاليها الأصلاء ــــ وبينهم جالية يهودية فعالة حافظت على الميراث البغدادي «العباسي» حتى في لهجتها وعاداتها ــــ الموظفون والتجار الوافدون وسكان القرى والريف المحيط ببغداد، المتمدنون الذين ما زالت العديد من أحياء بغداد تحمل أسماء عشائرهم ومنابتهم الريفية الأصلية. مدينة «انتقالية ومزيجية» كهذه سيحمل سكانها، إضافة إلى الخلفية العريقة، صفات مختلفة وجديرة بالدراسة الاجتماعية الرصينة. وهي، إضافة إلى هذا وذاك، مدينة تأثرت إلى حد بعيد بما مر بها من أهوال في ماضيها القريب.
لقد كانت بغداد طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى بدايات العشرين، لا تكاد تخرج من كارثة طاعون أو كوليرا إلا لتسقط في فيضان طوفاني لنهر دجلة يدمر أغلب عمرانها، ويتناقص عديدها السكاني إلى الربع أو ما دون ذلك، وكانت تلك الكوارث تحدث كل سنتين أو ثلاث أحياناً. هنا أيضاً، قد نجد عناصر ومسببات العديد من الصفات والطباع البغدادية التي تقدم ذكرها. ولكننا سنعود لموضوعنا محاولين تفحص الحالة السلوكية والمعنوية للبغداديين اليوم، وكيف انعكست عليهم مرحلة الاحتراب والاقتتال الطائفي الذي فرضه الاحتلال والقوى السياسية المليشياوية الشيعية والسنية. وللمراقب الحق في اعتبار ما سيلي من ملاحظات ومشاهدات واستنتاجات مجرد انطباعات شخصية لا يزعم كاتبها لها أكثر من ذلك:
يلف الحزن والهدوء بغداد وأهلها اليوم. وثمة شعور ملحوظ بالانكسار الذي يقارب حالة اليأس أو الاستسلام للمقادير. وبهذا تكون صفة العنجهية أو الغرور قد زالت أو تكاد، وحل محلها نوع من التواضع والقلق. غير أن اللطف والدماثة في التعامل، والعبارات البغدادية الحبيبة والناعمة، ما زالت كما كانت في سالف الأيام، رغم شحوب النبرة وخلوها من المرح غالباً. لعل هذه الصفة أقوى ما تكون كما لاحظناها، في المناطق التي كانت الأكثر سخونة وشهدت أقسى المعارك والجرائم الدموية. ثمة أيضاً مواقف صغيرة تدل على الشهامة والاستعداد لتقديم المساعدة دون مقابل، بل التخلي عن المقابل المادي أو عن بعضه من جانب الباعة والبقالين الصغار. ورغم كثرة الشحاذين من مختلف الأعمار، وحالة العوز المادي الواضحة في ما يرتديه ويتناوله الناس، ثمة تعلق واضح بنظافة الهندام والمظهر الخارجي وأناقتهما، الأمر الذي يفتقده الزائر للمحافظات والبلدات الصغيرة. ما زالت الجدران الإسمنتية، التي يسميها البعض «جدران العزل الطائفي»، تقطع أوصال العاصمة بغداد وأحيائها، وتجعلها أقرب إلى مجموعة متجهمة من الغيتوات، رغم أن بعض تلك الجدران قد رفعت أو على وشك أن تُرفع. وبخصوص هذه الجدران، ينقسم الجمهور دون وجود إمكانية لمعرفة الغلبة لمن، بين رافضين لوجودها، ومطالبين بإزالتها فوراً، وبين مؤيدين لاستمرارها لما يعتقدونه من فائدة أمنية فيها تتجلى في حماية السكان من أخطار الهجمات المسلحة وتسرب السيارات المفخخة. هناك شوارع رئيسية ومشهورة، كشارعي الرشيد والجمهورية في قلب بغداد، قد قطعت بمراكز التفتيش ومنع مرور السيارات فيها، غير أن الإهمال وتكاثر النفايات جعلها أشبه بالخرائب. أما شارع وكورنيش أبو نؤاس، فثمة اهتمام ملحوظ به مع أن مرتاديه ليسوا بتلك الكثرة الكاثرة.
هشاشة الأوضاع الأمنية، رغم الانخفاض الملحوظ في عدد الحوادث والهجمات المسلحة، وسيطرة القوات الأمنية على جميع المناطق التي كانت ساخنة، انعكست على نفسية الجمهور ووجودهم في أماكن الترفيه والتنزه. فالحذر والقلق يغلبان على رواد المتنزهات، وهذه الأخيرة تطفئ أضواءها وتغلق أبوابها مبكراً، عند ساعة قد لا تتجاوز التاسعة ليلاً في بغداد الذي كان ليلها في الأيام الخوالي يبدأ متأخراً ولا يكاد ينتهي.
ملاحظة أخيرة تتعلق بدخول جمهور الضواحي وأحزمة الفقر إلى قلب بغداد، دخولاً هو أشبه بالاجتياح. فأهالي ضاحية مدينة الثورة («الصدر») ذات المليونين مثلاً، وغيرهم من أحياء مشابهة، أصبحوا يحتلون الأرصفة والأسواق المرتجلة والعشوائية. وهؤلاء بجذورهم الريفية والجنوبية حملوا معهم عاداتهم وميولهم، وحتى لهجاتهم المختلفة عن اللهجة البغدادية.
صحيح أنهم يعيشون منذ نصف قرن تقريباً في ضواحي بغدادية، وأنهم كانوا على الدوام المادة البشرية «الأرخص سعراً» لمصانع بغداد ومعاملها وأسواقها، ولكنهم لم يتحولوا، أو للدقة، لم ينظر إليهم أسياد الأمس أو اليوم كبغداديين أبداً، حتى أن مسؤولاً كبيراً في حكم المحاصصة الطائفية الحالي، هو جلال الطالباني أسماهم من باب التعريض والقدح «أصحاب الدشاديش»!
من هذا الوسط الكادح، جاء أغلب عناصر النخبة المبدعة الجديدة في الأدب والفن في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته، وشباب الحركات السياسية المعارضة لدكتاتورية البعث الصدامي بالأمس القريب، ومنهم أيضاً جاءت عناصر المليشيات الطائفية القاسية وذات الميول الفاشية اليوم، والتي يروي عنها البغداديون عشرات القصص والحكايات المرعبة. الأكثر مدعاة للأسف هو أن نظرة التعميم إلى هؤلاء وأخذ البريء بجريرة المليشياوي المتورط في سفك دماء الأبرياء، هي السائدة. ثم إن هذا الزحف من الضواحي الفقيرة تزامن مع حالة النزوح الطائفي الواسعة من عدد من أحياء بغداد بفعل الأحداث الأمنية والاقتتال الطائفي، فأوجد العديد من الظواهر الاجتماعية المعقدة، وزاد من حالة البؤس والفوضى التي تعانيها المدينة وأهلها. من المؤكد أن مياهاً كثيرة ستجري تحت جسور بغداد قبل أن تنشأ مؤسسات وهيئات وأجهزة رسمية وشعبية تُعنى بهذه الظواهر وتشرع بالبحث عن حلول إنسانية وجذرية لها، لأن حكام اليوم، القابعين في منطقتهم الخضراء شديدة التحصين، لا يرون من بغداد إلا ما يراه السائح الأجنبي أو جندي الاحتلال من نافذة عربته المسرعة. وستظل بغداد تحدق في الأفق وتنتظر بهدوء حزين.
* كاتب عراقي