حوصر أهالي بيروت. وقعوا تحت رحمة الميليشيات المتنوعة التي استباحت منطقة عائشة بكّار، خلال اليومين الماضيين. لم تتوقف النيران حتى تدخّل الجيش بثقله، فمنع قطع الطريق بالإطارات، وأوقف عدداً من مطلقي النار
أحمد محسن ــ محمد نزال
لم يكن ما حدث خلال اليومين الماضيين تكراراً لأحداث السابع من أيّار. كان المشهد مختلفاً إلى حدٍّ ما، في أزقة بيروت عموماً، وفي منطقة عائشة بكّار تحديداً. لكن الخوف كان هو نفسه. يقفز من عيون بعض المارة إلى بعض. يواسون بعضهم بالأسئلة عن الغد، وإن كانت الاشتباكات ستحرق مساءاتهم مجدداً. المشكلة أن أغلب المشتبكين هم من بين هؤلاء الناس، الذين يتسلل الحذر إلى ملامحهم: قاسياً كصوت الرصاص الذي دكّ أزقتهم، وواضحاً كانتشار الجيش الكثيف.
خرج أهالي عائشة بكّار إلى محالّهم التجارية في المنطقة أمس، تحيط بهم ملالات الجيش اللبناني، التي تولت اثنتان منها حراسة دار الفتوى الإسلامية، فيما عمل عدد آخر منها على إقفال الطرق الفرعية المؤدية إلى قلب عائشة بكّار، حيث قضت المواطنة زينة ميرو (30 عاماً). يصعب إحصاء عدد آليات الجيش وجنوده. طبعت بزاتهم العسكرية المكان باللون الزيتي. حاولوا ضبط الأمن مهما كلف الأمر، وحاول الناس نزع الألم من أوردتهم، فقد ماتت أمٌّ لخمسة أطفال أمس، حين أصابتها رصاصة «طائشة» وهي على الشرفة.
شهدت شهادتها الأخيرة على الملثمين الذين يستبيحون حيوات الآخرين. راح الجيش يفتش السيارات المارة، والدراجات النارية، وكل شيء يطأ الأرض. لا أحد يريد للفاجعة أن تمتد. استمر الهدوء المقنّع حتى اقترب موعد انتصاف النهار. تجمع عدد من الشبّان الغاضبين على الطريق العام بالقرب من المفترق الفرعي المؤدي إلى دار الفتوى. أغلبهم من مناصري تيار المستقبل، وقد اعتصموا سابقاً في منزل آل ميرو، في محلة العلايلي حيث منعوا الصحافيين من الاقتراب. يريدون الثأر بقطع الطرقات، أو بأي طريقة أخرى. قالوا إن زينة الشهيدة قريبتهم، وأشعلوا الإطارات فجأة. قطعوا الطرقات وزادوا السواد في زفتها. وكي لا يتكرر الحداد، سارع فوج التدخل الثاني في الجيش اللبناني إلى إيقاف الأمر. أوقف عدداً ممن أحرقوا الإطارات، ليضيفهم إلى 7 من مطلقي النار.
كأن الناس يريدون الحياة هناك، رغم كل شيء. استعاد الجيش زمام الأمور مع مرور ساعات الظهيرة، وأقبل المواطنون على الحياة يدلون بتعليقاتهم. أحد الباعة المتجولين في المنطقة يتهم رئيس مجلس النواب شخصياً بما جرى، قائلاً: «يضب زعرانو»، ويتهم مناصري حركة أمل بأنهم «زعران»، رغم أنه أدار وجهه ليتأكد من أنّه لا أحد يسمعه. تقطعت وتيرة الإشكالات هناك، ولم تستمر على دفعةٍ واحدة، كما حدث في أيّار 2008. لكن ذلك لم يكن مطمئناً للمواطنين. وكان للحاضر في عائشة بكار أول من أمس أن يقول إنه بات في وسع الحرب أن تندلع. على مسافةٍ تبعد أقل من مئة متر عن البائع الباحث عن رزقٍ مبلول بالتوتر الأمني، يجلس بعض الشبّان تحت صورة عملاقة للرئيس نبيه بري، على كراسٍ بلاستيكية، يدخنون النارجيلة، كأنهم على شاطئ سياحي. لم يأبهوا بكل المظاهر العسكرية. لا يلبث أحدهم أن يعلن أنه مناصر لحركة أمل، وأنه غير راضٍ عما جرى، معلناً «أن تيار المستقبل بدأ بإطلاق المفرقعات باتجاه مناصرين لأمل (نحو حي الزيدانية)، ثم بادر أفراده إلى إطلاق النار نحو الحركيين». لم يبدِ أحد من المواطنين استعداداً لشرح كيفية تطور الأمور أول من أمس. تحدثت مصادر أمنية عن انتشار مسلح لعناصر حزبية في بيروت غداة تكليف النائب سعد الحريري. وفي مواجهة ذلك، تحدث مسؤولون حزبيون في حركة أمل عن استحضار تيار المستقبل عدداً من المسلحين من ساقية الجنزير والطريق الجديدة. اتهامات متبادلة ذهب أهالي بيروت ضحيةً لها. أكد عدد من هؤلاء الأهالي، ممن التقتهم «الأخبار»، أنهم سمعوا الأصوات القوية فجأة، لكن الصراخ الذي واكبها أكد لهم أن الأمر ليس ابتهاجاً روتينياً. بدا العراك أعنف من الذي سبقه قبل يومين، يعلن أحدهم، ويتابع: «كان صوت الرصاص حقيقياً ومدويّاً هذه المرة». أطلوا برؤوسهم من الشرفات ليصدمهم أشاوس الميليشيات، من الفريقين، بعرضٍ ناري بشع، سقطت زينة شهيدةً عى أثره (أول من أمس)، واضطر الجيش إلى تطويق المنطقة بقسوة (أمس).
وفي الحديث عن زينة (30 عاماً)، تجدر الإشارة إلى أنها من أصول كردية، وتقيم في الضاحية الجنوبية (حارة حريك)، مع زوجها وأطفالها الخمسة، الذين سيفتقدونها كثيراً. لا فرق بالنسبة إلى سكان شارع دكاش إن كان الرصاص طائشاً أو مصوّباً. كانوا يحبّون جارتهم وقد ماتت. ناطور المبنى الذي تقطنه بدا متأسفاً هو الآخر لرحيل الأم المرضعة، «فوليدها عمره 6 أشهر». أما جيران الشهيدة، التي كانت تسكن في الطابق الرابع من المبنى، ففجعوا بدورهم. إحدى السيدات تقول: «زينة محترمة ومحبوبة من الجميع»، ثم تمسح دمعاً كثيراً. قبل انتقالها للعيش مع زوجها في حارة حريك، ترعرعت زينة في منزل أهلها في عائشة بكّار. قُتلت أول من أمس، في المنزل الذي حفظ طفولتها عن ظهر قلب، حين «طاشت» رصاصة أحد الموتورين وأصابتها. قُتلت أم الأطفال الخمسة لسببٍ لا يمكن أياً منا أن يفهمه.