strong>نزار صاغيّة *على خلفيّة عدد من التحرّكات المطلبية الداعية إلى إقرار حقّ المرأة اللبنانيّة بمنح جنسيتها لزوجها وأبنائها، ولدت حيوية مميزة لدى الحركة النسائية وأعطت ثماراً عدّة في الخطاب العام والمجلس النيابي وأعمال القضاء (قرار محكمة بداية جديدة المتن الصادر في 16/6/2009)، أرسلت وزارة الداخليّة إلى رئاسة مجلس الوزراء طلباً لعرض مشروع قانون بإقرار حق الأم بمنح الجنسية لأولادها (دون أي إشارة إلى الزوج) (الأخبار 29 أيار). وإذ نصّت الأسباب الموجبة صراحة على وجوب إقرار حقّ الأمّ بمنح الجنسيّة أسوة بالأب، ضمّن الوزير كتابه صيغتين مختلفتين لمشروع القانون: الأولى تكرّس حقّ الأمّ اللبنانية دون أيّ استثناء عملاً بمبدأ عدم التمييز، والثانية تكرّس حقها المذكور مع استثناء الأبناء المولودين من آباء لا يحملون جنسية دولة معترف بها (وهي عبارة مستمدة من المادة الأولى من قانون تملك الأجانب المعدل في 2001، وهي تقصد بالدرجة الأولى الفلسطينيين وتشمل بالتبعية مكتومي القيد والآبارتهايد...)، وهو يستند إلى الرأي الداعي إلى وضع ضوابط عملاً بمقدمة الدستور لجهة رفض التوطين. وهو بذلك ترك لمجلس الوزراء حرية الحسم بين الصيغتين المذكورتين.
وبالطبع، لهذا الكتاب إيجابية تسجل لوزير الداخليّة: فهو يؤول إلى نقل المطلب الاجتماعي المذكور (حقّ الأم بنقل الجنسية) مدعّماً بعدد من أسبابه الموجبة (ومنها الوضع الاجتماعي للعائلات) من الشارع إلى قلم مجلس الوزراء (على أمل وضعه على جدول الأعمال، وهو أمر لم يحصل حتى اللحظة)، بما يعكس خطوة إضافية لإنضاج حق الأم بنقل الجنسية.
وفي المقابل، من المشروع التساؤل عن مدى صوابية وضع صيغتين لمشروع القانون هي أشبه بالشيء (لا تمييز) ونقيضه (التمييز على أساس النسب والجنس والأصل والوضع العائلي...)، في خطوة قد تكون الأولى من نوعها في هذا المجال.
فهل تبرر الاعتبارات الواقعية (البراغماتية) المتمثلة بالهواجس إزاء توطين الفلسطينيين (فزاعة التوطين) وضع استثناءات، تكون أشبه بنازعة الألغام المتصلة باستثمار هذه الهواجس، أمام إقرار هذا الحق، تماماً كما كانت نازعة ألغام أمام إقرار قانون تملك الأجانب في 2001؟ ألا يؤدي ذلك إلى إنصاف مجموعة كبيرة من الناس ويسمح ربما بعد حين، مع إنضاج المفاهيم، إلى إزالة الاستثناءات بالكامل؟
وألا يُخشى بالمقابل أن يؤدي التمسك بالمبادئ إلى إبقاء الوضع على حاله وإلى حرمان الأمهات والأبناء جميعاً من هذا الحق؟
وفي مواجهة هذه الأسئلة، أصبح ممكناً طرح أسئلة مناقضة تماماً: ألا يؤول تضمين الكتاب مشروعين إلى إيجاد تضارب في المصالح بين المحظيات اللواتي لا يشملهن الاستثناء والمستثنيات من الحق، وتالياً إلى تقسيم الحركة المطلبية وإضعاف زخمها، وتالياً القضاء على احتمالات إقرار الحق لضعف المطالبين به، وبأية حال إلى إقراره دون استثناءات؟ ثم، وأخطر من ذلك، ألا يؤول المشروع الثاني إلى تعميم الاستثناء الوارد في قانون التملّك ضد شريحة من الناس (الذين ليس لهم جنسية دولة معترف بها) وتسفيهه على نحو يؤدي إلى مظالم اجتماعيّة قد تكون أكثر مأساوية من أوضاع المولودين من أم لبنانية وأب أجنبيّ، ولا سيما أن الأبناء الأكثر تضرراً من جرّاء حرمان الأم من منح جنسيتها، هم تحديداً الأبناء غير الحائزين جنسية دولة معترف بها من آبائهم؟
وإذا كان من الجائز التذرّع بالواقعية لتمرير قوانين من شأنها الحد من المظالم، فهل يُعقل التذرع بها إذا كان من شأن القوانين أن تولّد وقائع أكثر ظلماً؟
وبالطبع، يبقى الجدل بشأن مدى صوابية التنازل عن المبادئ لأسباب براغماتية مفتوحاً، ولا سيما أمام الطبقة السياسية التي تستمد مشروعيتها من تمسكها بالإصلاح كما هي حال وزير الداخلية زياد بارود. ولكن، مهما تكن صوابيّة الدوافع البراغماتيّة، فإن الكتاب يبقى قابلاً للنقد من زوايا عدة، سأبيّنها أدناه.
وقبل المضي قدماً في عرض الانتقادات ـــــ والبعض قد يكون قاسياً ـــــ يهمني تأكيد أمرين: الأول تقديري لجهود الوزير في أكثر من مجال، والثاني أن دافعي الأساسي إلى نقد كتابه هو محاولة للإضاءة على مأساة الأمهات وأبنائهن ممن شملهم الاستثناء، وعلى وحدتهم وهي وحدة تزيد بقدر ما يحظى استثناؤهم من الحق بتأييد مراجع موثوقة شعبياً. أما بعد، فهذه هي الانتقادات التي سأحاول حصرها في زوايا ثلاث:
الانتقاد الأول: توصيف الحيادية بين المشروعين على أنها حيادية إزاء مبدأين، وذات قوة دستورية متساوية بمعزل عن اعتبارات البراغماتية.
فخلافاً لما قد يظنّه البعض، برّر الوزير بارود وضع مشروعين، ليس بوجود تضارب بين الاعتبارات المبدئيّة والاعتبارات البراغماتيّة الآيلة إلى مراعاة الهواجس، بل بوجود تضارب بين ضرورات قانونيّة ذات قوة دستورية متساوية. فكما أنّ المشروع الأول مستمدّ من مبدأ دستوريّ مفاده المساواة بين المواطنين كافة، كذلك المشروع الثاني (أي الاستثناء) مستمد من مبدأ دستوري مفاده رفض التوطين مع ما يستتبع ذلك من مفاعيل مناقضة لمبدأ المساواة! وإزاء ذلك، يصبح رجل القانون ملزماً بالحيادية (فكيف المفاضلة بين مبدأين دستوريين؟) ومرغماً على نقل المسألة كما هي إلى مجلس الوزراء الذي يبقى هو المرجع الصالح للحسم سياسياً بين الخيارين.
ودون الغوص في الأسباب التي حدت بالوزير إلى اعتماد هذا التوجه (وقد يكون أهمها رفضه الاعتراف بوجود تعارض بين المبدئيّة ومستلزمات العمل السياسيّ)، فإن هذا التوصيف آل عملياً إلى تجميل مشروع الاستثناء (الآيل إلى التمييز على أساس الأصل والجنس والعنصر والنسب، أي التمييز في أبشع صوره) وإلى إظهاره مظهراً قانونيّاً جديراً بالاحترام تماماً كما هي حال الموقف الآيل إلى إعلان المساواة بين المواطنين كافة. فإذا بالاستثناء يحظى بالمشروعيّة الدستوريّة إلى جانب المشروعيّة المستمدة من الهواجس إزاء التوطين!
بل أخطر من ذلك، فإن عرض المشروعين على هذا الوجه يؤدي عمليّاً، إلى إضعاف الحركة النسائية الداعية إلى إقرار حق الأم دون استثناء: فعدا التضارب في المصالح بين المحظيات والمستثنيات وفق المشروع الثاني، فإن إضفاء المشروعية على الاستثناء إنما يظهر الحركة النسائية الرافضة له كأنها في حال تصادم، ليس مع الغرائز، ليس مع واقع اجتماعي نرغب كلنا في تجاوزه، ليس مع الرافضين للتوطين، بل قبل كل شيء مع الدستور ومع سيادة الوطن ومصالحه العليا المتمثلة بمنع التوطين! وبالطبع، إزاء كل هذه الأمور، يبدو المناضلون لتكريس حق الأم بنقل الجنسية، ليسوا أعلاماً تقدميين في مجتمعاتهم يحاولون جاهدين تجاوز الوقائع الصعبة، بل مجرد مشاغبين ضد الدستور!
ومن هذه الزاوية، تكون الوزارة، عبر توصيف الاستثناء على هذا الوجه، قد عززت احتمالات استثمار «فزاعة التوطين»، بدل العمل على تقليصها وتجاوزها تكريساً للمساواة. والأمر يبلغ أقصاه إذا عرفنا أنّ مجلس الوزراء مهيّأ تماماً لاستثمار المشروعية القانونيّة المذكورة لحسم المسألة لمصلحة مشروع القانون الأكثر إرضاءً لهذه الهواجس.
الانتقاد الثاني: تجريد القانون من دوره في ضبط الآراء والغرائز الشعبية:
إلى جانب التسليم بالمشروعية القانونية للاستثناء كما سبق بيانه، فإن الكتاب خلا من أيّ محاولة في تقويم الآراء المؤيّدة لهذا الاستثناء أو الرافضة له على ضوء المبادئ القانونية، مكتفياً بعرضها دون أي مفاضلة. فبدا الكتاب كأنه يقبل الشيء (عدم التمييز) ونقيضه (التمييز في أبشع أشكاله)، أو كأنه يعلن أن «الكل على حق»، بما يشبه الإذعان «لما يطلبه المستمعون» ومجاملة لكل طالب، فلا يخرج أحد مكسوفاً. وبالنتيجة، كأنه يجرّد القانون من أيّ دور في تقويم الآراء والغرائز الشعبية تمهيداً لضبطها. ولإثبات ذلك، يكفي أن نستعرض بعض أبرز المخالفات القانونيّة المتّصلة بهذا الاستثناء. وأولاها في هذا الصدد هي توصيف ناقل الجنسية إلى الابن المولود من أم لبنانيّة وأب لا يحمل جنسيّة دولة معترف بها على أنه توطين. فما عدا ما بدا؟ ولماذا سلمت الوزارة بهذا الأمر دون أي تحليل؟
فمنع التوطين يعني اللاجئين الفلسطينيين وحدهم، فيما الأولاد من لبنانية يعدّون بموجب الأسباب الموجبة لمشروع القانون، في حال إقرار حق الرحم، لبنانيين أياً يكن والدهم، وتالياً غير معنيين لا من قريب ولا من بعيد بهذا الأمر. فبأي حق إذاً يُحرمون من حق الرحم؟ وبأي حق يُصنّفون ضمن الأشخاص الواجب منع توطينهم؟ بل ألا يؤدي تنسيب هؤلاء حصراً إلى آبائهم إلى دحض روحية القانون في أساسه وأسبابه الموجبة، بحيث يؤدي إلى القول إن للأم حق منح الجنسية على قدم المساواة مع الأب لكن الأولاد يُنسبون أولاً إلى آبائهم؟ وألا يؤدي كل ذلك إلى إظهار مدى عبثية الاستثناء تماماً كما هو عبثي أي استثناء يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى تقويض المبدأ المراد تكريسه؟ ولعل الجواب الأوحد الذي تدلي به الوزارة ردّاً على ذلك هو وجوب وضع ضوابط للحؤول دون التحايل على القانون. وهذا الجواب هو بالواقع أفدح من الصمت: فماذا يعني وضع ضوابط إزاء التحايل في حالات مماثلة؟ وهل وصلت الوزارة إلى حد التلميح بإمكانية استخدام الأرحام اللبنانية للتحايل على القانون، على نحو يصور الأرحام وكأنها أحصنة طروادة يستخدمها الفلسطينيون لخرق حصون رفض التوطين؟ بالطبع، من المشروع أن نتصور أن يمثّل الرابط القانوني تحايلاً على القانون للاستفادة من حقوق معيّنة كما هي حال الزواج الأبيض، ولكن هل يُعقل بالمقابل، لأي سبب من الأسباب، توصيف الروابط البيولوجية، وعلى رأسها رابط الأمومة، بأنها تحايل على القانون، فنتعامل معها في أي ظرف من الظروف على أنها عمل معاد للمجتمع؟ والواقع أن المسألة هي أقرب إلى معاقبة المرأة التي تسوّغ لنفسها الزواج ممن لا جنسية له أو لمن هو فلسطيني فتحرم من حق منح الجنسية، أكثر مما هي تحايل ضد القانون. وبأية حال، ألا تعكس هذه الإيحاءات مجتمعة استعداداً للتضحية بقدسية الأمومة (الموصوفة بالتحايل أو المحكومة بالعقاب) على مذبح «فزاعة» التوطين التي تصبح بمثابة آلهة لا تُقهر؟
وأكثر من ذلك، وإذا تجاوزنا مجمل هذه الاعتبارات، فهل بإمكان الوزارة أن تقول لنا ما دخل المولود من أب غير فلسطينيّ ولا جنسيّة له بمنع التوطين الذي وضع لاستهداف الفلسطينيين حصراً، ولا سيما أن قانون الجنسية الساري المفعول منذ 1925 يمنح الجنسية لمن كان كلا أبويه مجهول الجنسية؟
أما ثاني الأخطاء الفادحة، فهو غضّ الطرف عما يسببه الاستثناء من تمييز ضد فئات عدة، وبالأخص ضد الفئات الأكثر ضعفاً، على نحو يمثّل انتهاكاً لمجموعة من الاتفاقيات الدولية والمبادئ المكرسة والراسخة في مجال حقوق الإنسان، ويجرده من أي مشروعية قانونية.
فعدا أنه يؤدي إلى تكريس التمييز بين النساء اللبنانيات لجهة حقهن بمنح الجنسية اللبنانية وفقاً لوضعية أزواجهن، وأيضاً بين النساء والرجال الذين لهم حق منح الجنسية مهما كانت جنسيات نسائهم، (وهي أمور تتعارض مع العهد المدني لحقوق الإنسان ومع الدستور)، فإنه يؤدي إلى التمييز ضد الأطفال الأكثر حاجة إلى جنسية أمهاتهم؟ فمن هو الأحوج لإقرار حق الأم بمنح الجنسية اللبنانية، بل من هو الأكثر عرضة لوضع مأساوي بسبب التنكر لهذا الحق؟ الابن الحائز جنسية أبيه وحماية دولته أم الابن الذي ليس له جنسية أو دولة يتمتع بحمايتها لسبب أو لآخر؟ وإذا كان تجنب المأساة أحد أهم الأسباب الاجتماعية الموجبة لمشروع القانون كما ورد في كتاب الوزير، وتالياً معياراً أساسياً للتشريع في هذه الوجهة، ألا يصبح من العبثي هنا أيضاً استثناء الفئة الأكثر عرضة لهذه المأساة؟ وألا يمثّل ذلك انتهاكاً لاتفاقية الطفل الآيلة إلى تكريس حق الطفل بجنسية؟ بل ألا يمثّل هذا الأمر رجوعاً إلى الوراء بالنسبة إلى قانون الجنسية الموضوع منذ 1925 والذي ضمن الجنسية للرضيع المتروك في لبنان، بل أيضاً للطفل المولود من أبوين مجهولي الجنسية؟ والواقع أن الاستثناء المقترح هنا أيضاً يكشف وجهاً عبثياً لا يقبله أي تفكير قانوني: فبأي حق نحرم المولود من أم لبنانيّة الجنسية اللبنانية بدعوى أنّه ليس لأبيه جنسية، فيما نمنح الجنسيّة المذكورة للمولود من أبوين لا جنسية لهما؟
وهكذا يظهر حجم خطأ الوزارة في الإعراض عن تقويم الآراء المطروحة عليها قانوناً. وهي بذلك فتحت علبة باندورا أمام جميع الغرائز، المدعوة ليس فقط للخروج منها، بل أيضاً للخروج منها بلباس الشرعية، بلباس القانون وكامل حلته. هذا فضلاً عن التمييز العنصري الذي نتناوله في سياق عرض الانتقاد الثالث.
الانتقاد الثالث: تعميم الاستقواء والعنصرية ضد الفلسطينيين والفئات الأكثر ضعفاً: أما الخطأ الثالث الفادح الذي يطرحه الاستثناء، فهو تعميم العنصرية والتمييز ضد الفلسطينيين والذين لا دولة لهم بما يخالف معاهدة منع التمييز العنصري، ويؤكد أنه بات للبنان سياسة رسمية بمعاقبة الذين لا دولة لهم على اعتبار أنهم يمثّلون خطراً عليه بسبب حاجتهم إلى الجنسية (يراجع: «حين يصبح الحرمان من دولة جرماً»، الأخبار 23/6/2007). فبخفة متناهية ودون أي تحسب أو ترقب، استساغت الوزارة استعارة العبارة الواردة في قانون تملك الحقوق العينية من الأجانب (وهو القانون الموصوف من غير جانب بالعنصري) بدعوى أنها حازت رضى المجلس الدستوري في 2001 (يراجع: «القانون السادي ليس دستورياً»، النهار 17/10/2001)، متجاهلة مجمل الانتقادات للمجلس في تركيبته آنذاك، بل أيضاً وقبل كل شيء عدم جواز مقارنة حق تملك أرض من فلسطيني بحق الأم بمنح جنسيتها أو بحق الابن بالانتماء إلى وطن أمه. وأكثر ما أخشاه من هذا المشروع هو أن تتحول هذه العبارة «استثناء من لا يحمل جنسية دولة معترف بها» إلى «لازمة» أو «SAUCE» تضاف إلى كل قانون يفتح أبواب لبنان أمام الأجانب. فأهلاً وسهلاً بالأجانب السعداء... ولا مرحباً ولا سهلاً لمن على وجوههم مسحة كربة!
بل لا نخطئ إذا قلنا إن هذا الاستثناء الوارد في هذا المشروع يمثّل إنجازاً إضافياً لفزاعة التوطين: فهو يؤدي ليس فقط إلى التمييز ضد الفلسطينيين والذين لا دولة لهم، بل أيضاً إلى التمييز ضد من يرتبط بهم وأيضاً ضد أبنائهم المولودين بنتيجة هذه الروابط والذين عليهم هم أن ينسوا الرحم الذي خرجوا منه!
* محامٍ وباحث في القانون