ريمون هنّودصحيح أن الحركة الاشتراكية انبثقت رسمياً من الغرب، لكن الفكر الاشتراكي لم يكن مستورداً من الغرب. فالتاريخ يقرّ ويعترف بأن الاشتراكية كانت مُراد الفلاسفة الأوّلين وهدفهم، الذين كانوا يسعون بدأب إلى تشييد مدينة فاضلة تتوّجها كفاءة ومساواة وعدالة اجتماعية.
وبعد أفلاطون شهدت المدينة الفاضلة ولادة رسائل إخوان الصفا وظهورها في القرن التاسع، حيث بزغ فجر المدينة الفاضلة برونقها الجديد الذي سمّي حينها دولة أهل الخير، وأُريد لها أن تكون البديل الحقيقي الكفيل بمحو الفساد. إن مسيرة الفكر الاشتراكي في تاريخ الحضارة العربية بدأت مع دعوة الإسماعيليين إلى المساواة بين الرجل والمرأة. وقد أقدم القرامطة بعد فترة على تطوير الدعوة نحو الاشتراكية ونادوا بشعار بناء دولة العدل والمساواة.
بدأت ثورة حمدان قرمط في بلاد الرافدين، وتحديداً في منطقة واسط بين مدينتي الكوفة والبصرة. وحازت حركة حمدان نجاحاً كبيراً، إذ انتسب الكثيرون إليها، فعمد إلى تنظيمها تنظيماً دقيقاً، وراح يبثّ الدعوة في الخارج بواسطة دُعاة بينهم أبو سعيد الجنابي الذي قاد ثورةً في البحرين، وقاد آخرون ثورات أخرى في أماكن عدة من البحرين، وتكللت بالنجاح. وهذه الظاهرة التحررية التقدمية ترافق بروزها مع تأجّج الصراعات الدينية. وكان رجال الدين بمثابة رأس حربة هذه الصراعات.
أصدرت السلطة الأوتوقراطية فتاوى خوّلتها التنكيل والفتك بكل معارض للسلطة الاستبدادية. أما تهمة الزندقة فكانت محبّبة جداً إلى قلوب الخلفاء العباسيين. وكان الشعراء والمدّاحون ينظمون الشعر والمدائح للخليفة. وذلك التاريخ يشبه كثيراً المسار المتّبع في لبنان اليوم، إذ إن عشرات الآلاف آنذاك كانوا يهتفون للخليفة، تماماً كهتاف الأنهر المليونية البشرية في لبنان لأمراء الطوائف وحيتان المال. وتوالت الحملات آنذاك على تقدميي ذلك العصر، إخوان الصفا. فقد اتهم أبو حيان التوحيدي الإخوان بتأليف عصابات مهمتها الإضرار بالأخلاق والقيم الإنسانية. ولكن إخوان الصفا بادروا إلى الرد بالقول: واعلم يا أخي بأن الدولة والملك ينتقلان في كل دهر وزمان من أمة إلى أمة ومن أهل بيت إلى أهل بيت ومن بلد إلى بلد. واعلم يا أخي أن دولة الخير يبدأ أوّلها من قوم علماء حكماء، وأخيار فُضلاء يجتمعون على رأي واحد ويتفقون على مذهب واحد ودين واحد ويعقدون بينهم عهداً وميثاقاً.
حقّاً لقد سبق إخوان الصفا جان جاك روسّو إلى تهذيب المجتمع ورفع مكانته وشأنه إلى درجات مرموقة، ورفعوا عبارة دولة أهل الخير بديلاً لدولة أهل الفساد وأطلقوا العنان لها. وقد أدرك إخوان الصفا طغيان نفوذ الدين على العقول والمشاعر. واللبنانيون ليسوا بغرباء عن هذا الواقع المرير لأنهم يعيشونه منذ ما يزيد على القرن، والمعضلة أن غالبيتهم يعيشون برضاهم. وقد رأى إخوان الصفا أن الفلسفة تمهّد لانقلاب فكري تقدمي يبني دولة أهل الخير. وفي ما بعد أثار المقريزي زوبعة هائلة في النفوس عندما قال: إن الشرائع لم تُسنّ إلا لإرضاخ العامة وحماية المصالح الخاصة للحكام ومحاسيبهم. ومن بعد المقريزي أتى أبو العلاء المعري لينطق درراً في تلك الأيام بقوله: إن الديانات ألقت بيننا إحَنَاً، وأورثتنا أفانينَ العداواتِ.
وفي عصر النهضة ومع أحمد فارس الشدياق ابن عشقوت الكسروانية، ذلك المناضل الذي أضاف اسم أحمد على اسمه الأصلي لأسباب تستلزم روايتها خط صفحات وصفحات، بدأنا نسمع بكلمة اشتراكي واشتراكية. أما شبلي الشميِّل، الطبيب والفيلسوف وأحد أعظم رواد عصر النهضة فقالها بجرأة وصراحة: إن الاشتراكية تجسّد طريق الخلاص للإنسان، وما أحوج وطن الأرز العربي إلى نظام اشتراكي عربي علماني في عصر بيعت فيه الضمائر في المزادات العلنية ضمن أسواق العهر الطائفي. عصر بات فيه الإنسان بلا قيمة جرّاء سماحه للظلاميين بتجريده من الفكر والثقافة، وحقنه بسموم العصبيات الفئوية المنتجة للفتن. للأسف، بتنا في عصر الناس يأكل بعضها بعضاً لحماً ولا يبقى منها إلا الجماجم يردمها حفارو القبور. لقد أمسينا في عصر سرقت فيه بسمة الأطفال الملائكة واستشرى الفساد وتفشّت الموبقات وتمختر «شلمسطيّو» الأزقة والزواريب وقبضاياتها، وأُدميت القلوب، وبكى البكاء.