تبدأ معاناة الطلاب في الجنوب مع خيوط الشمس الأولى كل صباح. يسابقون الزمن ويتحدّون عوائق شبكة مواصلات غير عملية للوصول إلى ذاك الصرح الجامعي، الذي أبى إلا أن يكون بعيداً. ففي ما عدا كلية إدارة الأعمال التي لها فرع في النبطية، تتركّز مقارّ جميع كليات الجامعة اللبنانية في صيدا
النبطية ـــ مايا ياغي
«تهون المعاناة قليلاً مع حلول التوقيت الصيفي. فالمأساة الحقيقية هي في فصل الشتاء، حيث إن الدوام في الجامعة يبدأ عند الثامنة صباحاً، والمواصلات في قرى الجنوب صعبة جداً. وللوصول عند الثامنة، علينا الاستيقاظ في الخامسة فجراً، والتحرك من منازلنا في الظلام، قبل بزوغ الفجر. هذا كله مع عدم تقدير من الإدارة لظروفنا. فما بين أهواء «شوفير» الباص التي نخضع لها، والتأنيب الذي يقابلنا به الأستاذ عند وصولنا متأخرين إلى المحاضرة، لسبب لا ناقة لنا فيه ولا جمل، تلخَّص نهاراتنا بسلسلة من الضغط العصبي، يبدأ من أول النهار ويستمر حتى آخره».
هكذا تختصر سلوى عطوي، من بلدة زوطر الشرقية، حياتها الجامعية في كلية الآداب في صيدا، واصفة إياها بسباق مستمر مع الزمن، ورهان دائم على الوقت، غالباً ما تخسره.
بالنسبة إلى ليال غبّار، وهي أيضاً طالبة في كلية الآداب، فعمرها وشبابها «يضيعان على الطرقات»، إذ إنها تقضي أكثر من أربع ساعات يومياً ذهاباً وإياباً من بلدتها مرجعيون إلى الجامعة. فعند الخامسة فجراً، تنطلق صباح كل يوم دراسي من مرجعيون في رحلة الشقاء اليومية إلى الجامعة في صيدا. تضيف: «فضلاً عن الإرهاق الجسدي الذي أتحمّل عبأه كل يوم، والنعاس الذي أنفضه عن عينيّ طوال النهار بسبب الاستيقاظ المبكر جداً بالنسبة إلى أي طالب جامعي، فإنني أعيش على أعصابي خوفاً من الوصول متأخرة، وخصوصاً في فترة الامتحانات».
أما زينب رمضان، وهي طالبة أدب فرنسي من قرية بلاط، فتقول: «هكذا حالنا. من «سرفيس» إلى «سرفيس» ومن باصٍ لآخر حتى تصل منهك القوى، وقد «أكلت» نصيبك من مياه الشتاء، وتجرّعت النشرة الإخبارية الصباحية من أفواه السائقين الثرثارين الذين لا يتركون لك فرصة التنهد، ويستنكرون عدم تجاوبك مع أحاديثهم التي يمطرونك بها وأنت تحاول مثلاً أن تراجع دروسك في الباص، مستغلاً آخر فرصة لك قبل دخول الامتحان».
دعاء سعد، طالبة في كلية العلوم الاجتماعية تقول: «عادة أنتبه للوقت، فأبدأ رحلتي باكراً، ولكن «أعلق» أحياناً في زحمة سير خانقة لأسباب أمنية مجهولة، غالباً ما تكون متعلقة باضطرابات ما في مخيم عين الحلوة، ما يجعلني أصل متأخرة إلى قاعة المحاضرة، فيمنعي الدكتور المحاضر من الدخول قائلاً: «لازم تعرفي قيمة الوقت». أدرك أنه لا مجال للجدال فأتراجع مهزومةً من معركة لا أملك فيها سلاحاً يقنعه، لتكون الكافتريا مقرّي، أراقب منها عقارب الساعة التي أصبحت بالنسبة إلي مثالاً للشؤم».
هكذا هي الحال بالنسبة إلى كثيرين من طلاب الجنوب: تعبٌ في سبيل العلم ومعاناة يخوضونهما بصبر، من دون تفهّم أحد من المعنيين في إدارة الجامعة أو في الحكومة لظروفهم، أو محاولة تحسينها. فأكثر ما يزعج الطلاب، كما تقول جيهان فقيه، من كفرتبنيت، هو موقف إدارة الجامعة التي «لا تراعينا في مسألة الدوام. فهناك بعض المحاضرات التي أعجز عن حضورها لأنها تستمر إلى ما بعد الرابعة عصراً، ما يضطرني إلى العودة إلى قريتي في الظلام، وهو ما أحاول تفاديه، لأن الطريق لا تكون آمنة ليلاً، فضلاً عن موضوع المصاريف اليومية التي يتحمّلها أهلي. فرغم أن التعليم شبه مجاني في الجامعة فإن بُعد المسافات يجعل الطالب يتكلّف كثيراً وبشكل يومي».
بين رعاية الدولة والطالب الجنوبي مسافة شاسعة، كتلك التي تفصل قراهم عن صرح الجامعة، وعناء الوصول إليه الذي يزداد يوماً بعد يوم.


رحلة طالب من الناقورة

تتفاوت نسب معاناة الطلاب بحسب بعد مسافة قراهم عن أقرب مقر للجامعة اللبنانية في صيدا.
في هذا السياق، يذوق الطالب خضر حمود «الأمرّين» للوصول يومياً من بلدته شيحين، المحاذية لبلدة الناقورة الحدودية، إلى صيدا، إذ إنه يقضي أكثر من ثلاث ساعات على الطريق، يحبس أنفاسه ويعدّ الدقائق مع توقف الباص المتكرر. بالنتيجة، كثيراً ما يقضي أولى ساعات نهاره الجامعي في الكافيتيريا، بسبب وصوله متأخراً، ومنعه من دخول المحاضرة. إضافةً إلى ذلك، يحتاج خضر يومياً إلى أكثر من عشرين ألف ليرة بدل مواصلات. أما الطامة الكبرى كما يصفها، فهي «عندما أصل إلى الجامعة ويتخلّف الدكتور عن الحضور لسبب ما فتلغى المحاضرة. حينها أحلف على العلم واللي بيركض وراه».