في الفيلم الفرنسي Killer kid، يحاول الطفل الفرنسي كريم، دمج صديقه جلالي الآتي من معسكرات التدريب، في قيمه الاستهلاكيّة. شريط يحيلنا إلى مسألة الفروقات الثقافية، الناتجة من البيئة المحيطة بالطفولة. بين قيم الحروب وقيم المجتمع الاستهلاكي، كيف يتربّى أطفال هذا العالم
خضر سلامة
Killer kid فيلم فرنسي من إنتاج عام 1994. إنه مأخوذ عن رواية لكلود كلوتز، جرت أحداثها في الثمانينيات، أي في الفترة التي شهدت نوعاً من الحرب السرية الإيرانية ـــــ الفرنسية. جلالي (12 عاماً) طفل باعه أهله، أُدخل مع آخرين إلى مخيمات التدريب، وذلك ليُختار أحدهم لمهمة محددة: اغتيال رمز من رموز «الاستكبار» المسؤول عن مقتل والده، الهدف ليس سوى الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران. يتجرد جلالي في ساعات التدريب وأجواء التعبئة «الثورية» من طفولته حسب المخرج، يحمل المسدس مكان اللعبة، وتبقى صورة أبيه المقاتل ـــــ القتيل في يده لتذكره بدوره. يسافر الولد محملاً ببرمجة القتل والتعصب الديني إلى باريس، حيث يجب أن يحل تبعاً للخطة الموضوعة مكان كريم، المتمرد على السلطة الأسرية والمندمج في مجتمع الضواحي. يمضي الطفلان بضعة أيام سوية من أجل اندماج الأول في دور الثاني. في هذه الفترة، يظهر الفيلم التناقض بين «قسوة» جلالي العسكري المنضبط، و«براءة» كريم الطفل الذي يحاول إدخال صديقه الجديد إلى عالمه، حيث موسيقى الراب والأكل السريع وأفلام البورنو والسجائر.
Killer kid استطاع طرح إشكاليات عدة. فعدا رسالة الصداقة وقضية الأطفال المقاتلين، يطرح الفيلم مسألة الفروقات الثقافية حسب البيئة المحيطة بالطفولة، يقول جيرالد برونيه، بروفسور مادة الاجتماع في بيت العلوم الإنسانية في الألزاس. هذه هي النقطة الأهم بالنسبة إلى برونيه الذي يقول: «فلننطلق من وجود عالمين، عالم محكوم بالقيم الحديثة، إذا جازت عبارة الحداثة النسبية، وعالم محكوم بالصراعات. في عالم الحداثة يكفي أن يرفض الأهل والولد قيم الصراعات المصحوبة بمعايير اقتصادية واجتماعية، وتمسّكه بأخرى. يعيش الطفل في رفاهية مادية تضمن له تربية علمية وأسرية وحقوقية، دائماً سليمة نسبياً. أما في العالم الآخر، فيُحرم الطفل من الكثير مما يتمتع به طفل المجتمع الحداثي، ويخضع لتأثيرات أخرى». هذه التأثيرات حسب برونيه تُقسم إلى خانات: «في الخانة الأولى، لدينا التأثيرات السياسية للحركات الموجودة، ومن ثم تأثيرات الصدمات الدموية العاطفية الناتجة من الصراعات، وأخيراً، تأثيرات الضغوط التربوية الزائدة، كالتربية الدينية الصارمة أو التربية الفكرية الملتزمة». في مجتمع الصراعات والحروب، يرى برونيه أن «لا خلاف بشأن الضرر اللاحق بالطفولة المخنوقة، وبأثقال تبعات الخضات الاجتماعية والأمنية وما يصاحبها من فرض التزامات تربوية ـــــ أخلاقية. كلّ ذلك يؤدي إلى دخول الطفل مبكراً في عالم الوعي السياسي والعسكري أحياناً، وتجبره هذه العوامل على التحول لاإرادياً إلى أداة على رقعة الشطرنج، إنها رقعة الانتماء إلى أفكار أو معتقدات أو أهداف سامية. تحلّ هذه الالتزامات المفروضة مكان التزامات تربوية علمية ضرورية، ومعها يغيب الأمان الأسري الذي يصبح غير مستقر، بل إن الجو الأسري يصير لاعباً ضعيفاً في حياة الطفل أو يساهم في تعبئة الطفل للأفكار السائدة في المجتمع عموماً». يضيف الباحث الفرنسي أن العوامل المذكورة «تُضعف الحس العاطفي والجانب الـ«أنثوي» الضروري أحياناً في الطفولة، وذلك تحت وطأة قسوة الظروف والضغوطقد يكون الطفل أسير الأسرة المؤدلجة (من أيديولوجيا) والمدرسة المؤدلجة والشارع المؤدلج، أي كونه أسير المؤسسات المنضوية جميعها في التعبئة السياسية الاجتماعية، وهذا أمر صعب. «فهذه العوامل تُضعف مساحات الترفيه أو التثقيف المتنوع أو فترات الراحة الضرورية للوعي واللاوعي على حد سواء» يقول برونيه. لكنه يؤكد في المقابل: «من المهم أيضاً الالتفات إلى ما يحدث في العالم الأول، ذي القيم الرأسمالية، هل وضع التنشئة هناك أسلم؟ ما يحدث، هو دمج ممنهج للفرد منذ طفولته في ثقافة الاستهلاك. يدجن الطفل في ما يُعتبر حداثة، ويُفرض عليه التعلق بالرفاهيات المعتبرة نظرياً كماليات، كالألعاب الإلكترونية، والموسيقى الصاخبة، والوجبات السريعة. كما أنه يتربى في كنف أسرة، قد تكون منفتحة بالمعنى العام للتعبير، إلا أنها واهنة وضعيفة التماسك، وذلك لانشغال أطرافها بيوميات مادية». في هذا الواقع بحسب برونيه، تنحسر القيم الأخلاقية كالصداقات ومعها تنحسر العقائد الفكرية والالتزامات السياسية الأيديولوجية، وتغيب تماماً بعكس إغراقها للمثال السابق، هنا، تنتج هذه الطفولة نماذج نجدها اليوم في الحركات الشبابية غير المنظمة، المتطرفة فاشياً أو فوضوياً، التي تجمعها فكرة التمرد ورفض النظام، وذلك كنتيجة للفراغ. ويعني برونيه «فراغ الانتماء منذ الطفولة وضعف التثقيف السياسي». التربية الاستهلاكية تعاني انعدام الصرامة، أو بالأحرى انعدام الحاجة إلى جهد فردي أو فكري ما دام المحيط يؤمن لنا ما يعوض هذه الحاجات أو يمحوها مرضياً، لنصبح بذلك مبرمجين على وتيرة معينة، ومتعلقين بهذا النمط، هذه النماذج قد تعاني في مرحلة الرشد الأمراض النفسية كالاكتئاب وضغط العمل ومحاولات الانتحار أو التفلت من الأسرة وكره الذات».
بين طفل عالم الصراعات السياسية والحربية، وطفل المجتمع الحداثي ـــــ الاستهلاكي، يصر برونيه على وجود خيار وسط. «ربما نحتاج إلى عالم مثالي يوازي بين أطرافه، ولا يتمزق بفعل تفوق فئات على أخرى أو مجتمعات لمواد العلم والصحة والتعليم، لكن الأمل أكيد بعالم نستطيع فيه أن نرى أطفالاً محررين من ضغوط حروب العسكر ومن ضغوط حروب الشركات التسويقية أيضاً».


يؤكد جيرالد برونيه أن المطلوب هو موازنة حقوق التربية البديهية المتفق عليها، مع حق تلقن المواد الوطنية والأخلاقية العليا السامية، ليكون الطفل صاحب قرار مستقبلي بإكمال بناء شخصيته، لا الحصول عليها منحوتة بأيدي ذوي المصالح... مهما كانت.