وائل عبد الفتاحإنّها مثل طرائف التاريخ. حكاية تشرح بتفاصيلها ما خفي من السلوك السياسي والفكري. أمثولة سياسية على الهواء مباشرة من القاهرة. قرار من رئيس الجمهورية بإعدام الخنازير نهائياً. هلّل نواب البرلمان. وتوحّدت المعارضة لأول مرة مع الحزب الحاكم في الحرب على مزارع تعيش في قلب العاصمة وتتغذّى على ٧ ملايين كيلوغرام من «زبالة» سكانها. نائب من الإخوان المسلمين ارتدى كمّامة في قلب القاعة ليثير مشاعر لا تخلو من طائفية مستترة في ثنايا الخوف والذعر. التوصية بالإجماع وحكمة الرئيس ظلّلتا تعليقات صحف النظام، بينما لا أحد يعرف كيف اتُّخذ قرار المذبحة بهذه السرعة. هل هناك تقارير علمية تشير إلى أن مقاومة الوباء تبدأ بإعدام الخنازير؟ هل هي توصية من مجلس طبي استشاري؟ من هنا الأمثولة. السياسة تدخل بديلةً للعلم. والعقل يغيب في لحظة الحاجة القصوى إليه. الانفعال المفرط هو سيد الحلول. يبدو دلالة على قدرة اتخاذ مواقف وقرارات حاسمة.
القرار استعاد بعض الشعبية المفتقدة. وغطّى على النتائج السلبية لارتباك النظام في ملفات داخلية (الرئيس مبارك قال للعمال إنه يحارب مع الحكومة من أجل الحصول على أعلى نسبة للعلاوة السنوية)... وخارجية (الرئيس مبارك أرسل برقية تهنئة لشمعون بيريز بالذكرى الـ٦١ لقيام إسرائيل).
الخطباء على المنابر اعتبروا الوباء «غضباً إلهياً أنزل عقابه على البشر»... هنا التقت ثلاثة أطراف (السلطة والمعارضة والمشايخ) في إلغاء العقل عن القرار السياسي. وبدت مصر كأنها بقعة بدائية تتصرف مع الوباء كما لو كانت قبل اختراع الصحة والطب ومدارس إدارة الأزمات.
الخوف والفزع شلّا العقول والأفكار وتركا المجال متاحاً لخرافات سياسية وميتافيزيقية، كاشفة عن انفلات عصبي يجعل المسؤول يفكر في نقطة واحدة. ويصدر وزير الصحة مثلاً قراراً بتحويل مستشفى الأمراض النفسية في ضاحية مصر الجديدة إلى حجر صحي تابع للمطار بدون أن يحسب تبعات تشريد ١٢ ألف مريض.
لكنه ليس انفلاتاً غير محسوب على مستوى تحقيق المصالح أو تسوّل الشعبوية فيذهب الوزير نفسه إلى البابا شنودة، بطريرك الأقباط، ليطلب منه التدخل لإقناع المسيحيين بعدم تناول الخنازير. وهذا ما نشرته الصحف التي يبدو في أحد مستوياتها أنها تداعب غرائز طائفية ترى أن أسباب الوباء بعيدة عن عادات الأغلبية المسلمة.
وبدلاً من أن تواجه الدولة بعقلها وتماسكها الأزمة الخطيرة استسلمت لتيارات شعبوية وداعبتها. ويبدو أيضاً أنها استراحت للفزع الذي يحرك «لا عقلانية» متشكّكة في قدرة الأساليب العلمية على مواجهة الفيروس الغامض.
المذبحة كانت أيضاً ردّ فعل متسرّعاً يداري فشلاً سابقاً (بعدما تحوّلت انفلونزا الطيور إلى مرض متوطّن في مصر وقفزت أعداد الضحايا)... النظام أراد أن يقول إنه لن يفشل مجدداً. وبدلاً من تغيير الأسلوب إلى مزيد من العلمية، بدت السياسة في القرار أميل إلى حكمة متعالية أكبر من البحث واحترام التخصّص والخبرات.
هذه الحكمة لعبت بأعلى مستوياتها على شعبوية حائرة بين أطراف مطلقة... الدولة فاشلة ومستسلمة... والمعارضة متهوّرة وظالمة... الانتقال بين الطرفين الملتهبين يجعل مناخ إصدار القرار مكهرباً رغم سمة الاعتدال الملازمة لحكم الرئيس مبارك.
نظام معتدل لكنه عصبي. يتكلم عن خطاب عملي لكنه لا يخلو من مداعبة انتظارات جماهير متعوّدة منذ الستينات خطاب الرعاية الكاملة مقابل التوكيل السياسي الكامل. من هنا فإنّ نزوع نظام مبارك إلى الخصخصة مثلاً يغلّفه وعي الرئيس المدرّب على مداعبة تعاطفات الجماهير التي تسمّي «البعد الاجتماعي» وتجسّد في العلاوة الاجتماعية.
وهكذا أيضاً يبدو خطاب نظام مبارك في ملف إسرائيل مزيجاً من عقلانية تبرّر المواقف بمصلحة الشعب، ومن عصبية الحديث عن الدور المصري الخالد المتعالي... مزيج يبحث عن شعبوية التخويف من الحرب ليواجه بها شعبوية الرغبة المطلقة في الحرب.
مذبحة الخنازير أمثولة عن النظام العربي تقريباً. مصر حالة نموذجية ورائدة. وتبدو على لوحتها التفاصيل كلها. كما كانت الدهشة التي قابل بها العالم القرار المصري مجالاً يحتاج إلى تمحيص، فالوباء العالمي يحتاج إلى تنسيق عالمي والطبيعة التي خرج من بينها وحش مفترس نتيجة لقاء بين الحيوان والإنسان تحتج بطريقة مرعبة على تصرفات البشرية كلها في مواجهة البيئة... وليس من الطبيعي أن تبدو مقاومة الوحش بطريقة تمنع واحدة من دورات الطبيعة حيث كان الخنزير في مصر يؤدّي دوراً ما في نظافة القاهرة... دور ناقص لأن هناك من تغاضى عن وضع مزارعه في قلب القاهرة، كأنه يلغي الدور الذي يقوم به.