كمال خلف الطويل *نُسب إلى علي السعدي مخطط انقلاب 1963 في العراق وقائده (رغم سجنه أياماً فقط قبل الانقلاب)، قوله إننا أتينا إلى الحكم على قطار أميركي.
عزّزت رواية الملك حسين لمحمد حسنين هيكل في أيلول 63 أن الاستخبارات الأميركية نسّقت عملانياً مع بعث العراق عبر تأمين إذاعة سرية ـــــ من قاعدة كويتية ـــــ وفّرت لكوادر البعث قوائم بأسماء الشيوعيين وعناوينهم ليجري اصطيادهم قتلاً... عزّزت من شبهة التنسيق المسبّق بين الطرفين، ولا سيّما مع إيراد البروفيسور حنا بطاطو شهادة بعثيّ قيادي عن إبلاغ السفارة اليوغوسلافية في بيروت قادةً بعثيين اتصال بعض رفاقهم من بعثيّي العراق بالأميركيين.
لكن رواية أصدقاء البعث تؤكد انعدام أي سابق تنسيق، وإن كان الأميركيون قد سارعوا إلى العون، حالما أمنوا جديّة الانقلاب.
والحال أن منطق الأشياء ذاته يشي عن سابق تخادم وجد طريقه للتنفيذ منذ نهاية 62، وبعلّة تقاطع المصالح.
يفيد هنا ذكر عوامل وازنة في تقدير الأمور:
1ـ أن السباق كان محموماً بين البعث وبين حركة القوميين العرب ـــــ تحت إشراف الكادر المتقدم المقيم سراً في العراق... نايف حواتمة ـــــ للقيام بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم.
قرر حواتمة تاريخ 25 شباط، أول أيام عيد الفطر، موعداً للانقلاب الذي كانت الاستخبارات المصرية على اطلاع مسبّق عليه منذ أوائل العام.
لم يكن حواتمة ولا السعدي يعلم بموعد انقلاب الآخر المفترض، لكن اتفاق جنتلمان كان قائماً بأنه حالما يسبق أحد منهما يسارع الآخر لدعمه.
والحاصل أن ذلك كان بالضبط ما حصل، إذ لولا مساندة الضباط القوميين يومي 8-9 شباط لما كان من اليسير على البعث الفوز.
2- أن هناك قناة اتصال بين بعض قادة البعث و«الوكالة» هو البروفيسور إيليا زغيب، وهو أستاذ جامعي لبناني درّس في الجامعات الأميركية وانتُدب أستاذاً زائراً لجامعة بغداد عام 60 حيث كوّن الكثير من الصلات مع بعثيين وقوميين، بل وارتبط اسمه تحديداً مع طالب شبيب عضو القيادة القومية، فضلاً عن سالف تعرّفه إلى الأستاذ ميشيل عفلق أثناء إقامته في برمانا عامي 60-61.
3ـ أن صلات حميمة نشأت بين صالح عماش عندما كان ملحقاً عسكرياً في واشنطن قبل مدة من الانقلاب وبين مستضيفيه.
ليس المدلول في ما سبق ارتباط عمالة، بل تقاطع مصالح بين حزب يتحرّق للسلطة ويتوق ـــــ بالحاجة ـــــ إلى حليف دولي يناظر ويوازن الحليف الدولي الآخر (الاتحاد السوفياتي) الداعم والمؤيد لعدوه المحلي عبد الكريم قاسم.
كان الخيار البعثي بالذات هو أهون الشرور للأميركيين في تلك الفترة لجمعه عداوة الشيوعيين، وخصومة عبد الناصر، فيما الاثنان مصطفان في المعسكر المناوئ لمقاصد السياسة الأميركية، كل من موقعه.
4ـ أن قرار الاستخبارات المركزية بتصفية عبد الكريم قاسم اتخذ في أواخر 1961 بُعيد إصداره قانون 80 النفطي، الذي جرّد شركة نفط العراق البريطانية من امتيازات تتجاوز أماكن استثمارها القائمة، أي عملياً من 99 بالمئة من أرض العراق، وكذلك بعد تهديده باجتياح الكويت وإعلانه ضمها محافظة عراقية.
كان قاسم وطنياً عراقياً بامتياز، أي عراقوي الهوى مع ميل لدعم قضايا العرب، لكنه كان مهجوساً بالكيان الخالد وبدرء الذوبان في عروبة أوسع أو الانضواء تحت قيادة قومية كعبد الناصر.
حاولت «الوكالة» اغتيال قاسم بتسميمه بواسطة محارم ورق في فبراير 60.
إثر الفشل، كُلّف فرانك كارلوتشي ـــــ من رجال الاستخبارات المركزية ـــــ ملف تصفية قاسم حال فروغه من تصفية لومومبا في الكونغو بنجاح وحشي.
وسرعان ما بدأ كارلوتشي بتحريك الورقة الكردية بعد طول هجوع (منذ 1946 وسقوط جمهورية مهاباد الكردية في إيران وهروب الملا مصطفى البرزاني إلى موسكو حيث بقي إلى حين ثورة 58 عندما توسط عبد الناصر مع قاسم لإعادته وإعادة اعتباره)، فأوعز للملا مصطفى البرزاني بشن حملة إغارات على مواقع الجيش العراقي في الشمال.
تفكّر الأميركيون منذ 61 في أفضل خيار لإنهاء قاسم: لنلحظ هنا أن بارتي البارزاني نسج تحالفاً تكتيكياً ـــــ عام 62 ـــــ مع حزب البعث لا مع حركة القوميين العرب، وهو ما اتّسق مع رغبة الأميركيين، وحليفهم الإقليمي الشاه، في التأكد من حرمان عبد الناصر موطئ قدم في العراق.
والراجح أن نصيحة أميركية قدّمت إلى قيادة البعث الناجية ـــــ بعد اعتقال الأمين القطري ورئيس المكتب العسكري (علي السعدي وصالح عماش) في اليوم الأول من شباط ـــــ بالتعجيل بالقيام بالانقلاب عوضاً عن التأجيل لرجحان تسببه بأحد أمرين: إما انكشاف كامل الشبكة البعثية خلال التحقيقات، أو نجاح القوميين العرب في القيام بانقلابهم... وهو المحظور بأي حال.
5ـ أن وليام ليكلاند انتُدب ملحقاً سياسياً في السفارة الأميركية ـــــ أي مدير محطة الوكالة ـــــ ببغداد حال نجاح الانقلاب.
والثابت أن عبد الناصر حذر البكر ـــــ عماش ـــــ شبيب عندما التقاهم في القاهرة يوم 22 فبراير من مخاطر وجود هذا العميل الكبير للاستخبارات المركزية في بغداد، وهو الذي خدم في الخمسينات في القاهرة كواحد من عصبة كيرميت روزفلت التي تعاملت مع النظام المصري الوليد وقتها، ثم إن الاستخبارات المصرية هي التي كشفت قصة ايليا زغيب حتى اضطر خدينه وصديقه طالب شبيب إلى تهريبه في ليل... ومن حينها ولا أحد يعرف للرجل أثراً.
6ـ أن سلوك حكم البعث القصير صبّ في مجمله في قناة السياسات الأميركية: إجهاض ميثاق 17 نيسان للوحدة الثلاثية... تسليم دبابات ت 54 سوفياتية للأميركيّين... تقتيل ألوف الشيوعيين ومسانديهم، مما وتّر العلاقات السوفياتية ـــــ العربية لاشتباه السوفيات بأن عبد الناصر أجاز بالصمت مذبحة بغداد الحمراء... ثم إغلاق ملف الكويت بوسيلة رشوة 30 مليون دينار، وأخيراً العودة للقتال الاستنزافي ضد بشمركة الأكراد.
لم يطل الوقت على البعث إلا شهوراً معدودات حتى فتك «معتدلوه» و«يساريوه» و«عسكريوه» بعضهم ببعض، فيما وقفت القوى الإقليمية والدولية الرئيسة إما منشرحة (مصر عبد الناصر) أو لامبالية (أميركا وبناتها).

* كاتب عربي