أنطوان الخويريمضت ثلاث سنوات على غيابه، وذكره لا يزال حياً في البال والضمائر، ووجهه البهيّ ماثلاً أمام أعين اللبنانيين، حاملاً البسمة والفرح كما الأمل الواعد بالطمأنينة والسلام، من خلال أريحيته وعطاياه، ومن خلال مواقفه الوطنية والإنسانية التي لا يمكن التحدث عنها إلا بشغف الاشتياق إلى حكمته ومعرفته، والتوق إلى وداعته وغنى قيمه وأخلاقه.
مَن يذكر جورج افرام، ولا يذكر طيب الكرم والسخاء بشهامة؟ مَن يذكر جورج افرام، وينسى شرف النزاهة والاستقامة بإخلاص ووفاء؟
مَن يذكر جورج افرام، ويغفل دوره الريادي في العمل على تحديث النظام والإدارة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمواطنية الصالحة؟
مَن يذكر جورج افرام، ولا يقرأ أفكاره وخططه ومشاريعه التي كان يحوكها من خيوط العصامية والإبداع، لينسج رداءً جديداً للعمل والإنتاج وتأمين مستقبل الأجيال في لبنان؟
ومَن يذكر جورج افرام، ولا يرى ما حققه بالكفاح والجهاد، من بناء مصانع، وإعلاء مداميك، لأجل لبنان الوطن وازدهاره؟
ومَن يذكر جورج افرام، ولا يذكر أشقاءه الذين كانوا له العون والسند، أو أبناءه الذين يسيرون على خطاه في تحقيق الأماني، وكبيرهم هو الأمل الآتي لأهله ومنطقته ووطنه، لو شاء!
لقد عاش جورج افرام عمره على عنفوان المروءات، ونُبل المكرمات، لا يمالئ كبيراً أو عظيماً، ولا يُحاسِنُ قوياً، ولا يخاشِنُ ضعيفاً، بل كان يتلمّس دائماً فضائل التواضع والبساطة، وخدمة المجتمع بلا منّة أو غاية، كمَن له دالّة نحو السماء، أو صلة تزَهُّد وتَرَسُّل للقيام بأعمال البرّ والخير.
ترى، هل تسمح روحه اليوم بذكر بعض مآثره وأياديه البيضاء في تقديم المساعدات الخيرية والإنسانية الخفيّة، التي لم يكن يدع يساره تعرف ما فعلته يمينه؟
كان يقول لي: «ما أقدمه لا فضل لي فيه، لأن ما أعطيه ليس منّي، بل من الله، فهو قد أعطاني الكثير كي أعطي الكثير، أنا الوسيط فقط».
ويوم طلب إليّ بعض رؤساء المدارس إقناعه كي يسمح لأهالي التلامذة المستفيدين من مساعداته في تسديد الأقساط المدرسية الاجتماع به لشكره، رفض بإصرار مقرون بخفر وتواضع، قائلاً: «لا أريد أن أعرف مَن أساعد، ولا أن يعرفوا هم أني أنا المُساعِد، وفي هذا سعادتي»!
كثيرون ربما لا يعرفون أن جورج افرام كان يقدم الدعم المادي لعدد من المدارس والجامعات بغية الاهتمام بتنشئة أجيال لبنان تنشئة علمية ووطنية صحيحة؛ ويعلم عدداً كبيراً من التلامذة والطلاب على حسابه الخاص، ولكن بصمت تام، حتى إنه في السنوات الأخيرة قام بمبادرة إنسانية كريمة، إذ قدم حافلات (أوتوكارات) خاصة لنقل طلاب الجامعة اللبنانية مجاناً من منطقة كسروان إلى مختلف الفروع.
ثم أنشأ مدرسة مجانية في جونية، وكان وراء جمعية «أصدقاء المدرسة الرسمية» لدعم هذه المدرسة في منطقة كسروان ـــــ الفتوح، مادياً ومعنوياً.
وكثيرون ربما لا يعرفون أن هناك مئات العائلات التي كانت تتلقى منه مساعدات مادية شهرياً للعيش بكرامة، ويحصل بعضها على مساعدات صحية لتأمين الدواء والاستشفاء.
أما الكنائس، والجمعيات، والنوادي، فقد كان لها نصيبها أيضاً من الدعم والمساعدة. هذا فضلاً عن المشاريع الكبرى التي سعى إلى تحقيقها بعد إهمال طويل لمنطقته من مثل مشروع «سد شبروح» وتوسيع وتأهيل أوتوستراد نهر الكلب ـــــ فاريا، وإنشاء ثانوية رسمية في جونية، ودعم البلدية، والتخطيط لمشروع سياحي ضخم يجعل مدينة جونية حقاً لؤلؤة
المتوسط.
جورج افرام، والخدمة، والعطاء، أقانيم لا تنتهي من التفاني والتضحية، إلا بعد رفع اليدين للشكر والصلاة. ولقد عرف اللبنانيون هذا الرجل داعية وفاق ومحبة، وإنسان أخلاق وقيم، إلى جانب تمتعه بثقافة واسعة، وبديهة حاضرة، وفكاهة عذبة، ومعاشرة لطيفة، بعيداً عن التكلّف والتعسّف والتزلّف، فهو ولِدَ متواضعاً ونشأ كبيراً عندما عاسره يومه، وبقي متواضعاً وكبيراً عندما بسط له الدهر كفّه.
لم يختر جورج افرام السياسة، بل هي سعت إليه، كما تسعى اليوم إلى ولده نعمة، فقبلها خدمة للوطن والشعب، لا زعامة في الوطن على حساب الشعب. وإن دعوته إلى تعزيز العمل المؤسساتي بروح من التعاون والتضامن والمشاركة والاندفاع بتجرد وتضحية إلى الإصلاح والتغيير لتسيير عجلة البناء والإنماء خير شاهد على ما قام به من دور فاعل، نائباً ووزيراً، وما تركه من أثر كبير في دوائر الوزارات التي شغلها، بحيث كان يأتي بمستشاريه ومساعديه ومرافقيه على حسابه الخاص، ويموّل الدراسات والخطط وتنفيذ الأعمال من جيبه، على عكس مَن كان يأتي بأزلامه وأتباعه للزلع والبلع من خيرات الدولة وحقوق الشعب.
تتعثّر الكلمات للإحاطة بمزايا هذا الرجل وصفاته الروحية والخُلُقيّة والوطنية والإنسانية. لقد كان موسوماً بميرون الإيمان المسيحي العميق، ومتجلياً بفكر صوفي وقّاد، ومتمتعاً بعزم متين وإرادة قوية، بحيث استطاع أن يجمع بين العقل المنظّم والتقنية الحديثة، والعمل الخلاّق، على النهوض بالصناعة الوطنية إلى أعلى مستوياتها العالمية. وبقدر ما تعشَّقَ روح الحق والحقيقة وفضيلة الصدق والصداقة، بالقدر ذاته أحبَّ صناعات المودة والمحبة، وحرية العيش الأخوي، والوحدة الوطنية في وطن الله والإنسان.
هل يذكر المخلصون الأوفياء جورج افرام، وبخاصة في هذه الأيام التي تشهد عروضاً سياسية ـــــ مسرحية يتسابق فيها البعض على تمثيل أدوار التكاذب والمتاجرة بحقوق الشعب وكرامته وراء ستار الاستغلال بحجة المحافظة على السيادة والاستقلال؟