محمد شعير
لا تفارق الابتسامة وجه الطاهر وطار. في أحلك الظروف، تُغطّي ضحكته على «نوبات» الغضب الحادّة التي لا يسلم منها أحد. لكنّ الكلّ يدرك أنّه أمام قلب صاف لرجل يمتلك براءة الأطفال. ربما كانت هذه الابتسامة سبباً لتغلّب «عم الطاهر» على محنته الصحيّة الأخيرة.
من باريس حيث يعالج، جاء صوته هادئاً كالعادة. لم يشأ التحدّث عن مرضه. قال: «هي محنة عابرة»، وهو متفائل رغم أنّ الأطباء أخبروه أنّ العلاج سيستغرق تسعة شهور لا ستّة كما قيل له. «أواجه الأمر بشجاعة وصبر». وبالفعل هو كذلك. نتذكّر ما رواه لنا الصديق ياسين عدنان ذات مرّة في «الجاحظية»، الجمعية الثقافية التي أسّسها وطّار مع الشاعر القتيل يوسف سبتي منذ 20 عاماً. حكى الشاعر المغربي أنّ الطاهر تلقّى يوماً اتّصالاً من مجهول يخبره أنّ المبنى سينفجر بعد ثلاث دقائق. كان ذلك في عزّ استهداف المثقفين في بلد المليون شهيد. يومها، هرع الحاضرون في «الجاحظية» إلى الخارج. وحده الطاهر تخشَّب فوق مكتبه مُصرّاً على البقاء، بل تلقّى الخبر بابتسامة. وعندما مرّ الوقت ولم يحدث شيء، فسّر الطاهر أنّها «حكمة شيخ عركته التجارب. كل الذين ماتوا في الجزائر أمامي من الأدباء وغير الأدباء، لم يُحطهم أحد علماً بموتهم الوشيك. لذا، توقعت منذ البداية أنّ البلاغ كاذب».
وطّار في كل حالاته مثير للجدل: يتّهمه المعارضون بأنّه أحد أركان السلطة، وتتهمه السلطة بأنه معارض دائم! يتّهمه العلمانيون بأنّه أصولي، وتتهمه الجماعات الإسلامية بأنّه علماني! ويتهمه الكتّاب الشبان بأنه أعاق تطوّر الرواية الجزائرية، وبأنّ ذائقته كلاسيكية... وهو يعتبر أغلب الكتابات الجديدة كتابات بلا طموح! مرة تراه بذقن، وأخرى حليقاً.... لكنهّ ـــ في كل هذا ـــ يحظى بتقدير الجميع... إنّه باختصار، حالة استثنائية!
خارج الجزائر، هو أكثر الأدباء المغاربة شهرةً. أبو الرواية الجزائرية المعاصرة، المكتوبة بالعربية، بوابة الدخول إلى الجزائر. لا يمكن أن تكتمل زيارتك المدينة إلا بمقابلته في «جمعية الجاحظية» حيث اعتاد لقاء الأصدقاء والغرباء كل يوم. يدخل معهم في نقاشات حول مختلف القضايا. هناك، يبدأ يومه، يعمل مثل شاب يخطو خطواته الأولى في الحياة العملية، يريد أن يثبت لرؤسائه كم هو مجتهد. لكنّ وطار لا يرأسه أحد، هو المدير والقائد الفعلي للجمعية. مكتبه وسط العاملين معه، بينما الصالة الصغيرة للضيوف والزائرين!
عندما يترك «الجاحظية»، يرتاح قليلاً في منزله، يدير التلفزيون ليشاهد الأفلام البوليسية، يجد فيها متعةً بعد عودته من العمل. هو لا يحبّ أن يشغل نفسه بقضايا فكرية وجدلية. يريد أن يستمتع فقط بتتبع الحدث والحبكة. يكتب أعماله على الكومبيوتر منذ الثمانينيات، واستطاع أن يلمّ بكل أسراره. حتّى إنّه صمّم بنفسه موقعه الشخصي وآخر لـ«الجاحظية». يكتب في الصيف فقط، يخصص ثلاثة أسابيع للكتابة إذا كانت هناك فكرة روائية تطارده. يذهب إلى منزل يملكه على البحر بعيداً عن العاصمة ويبدأ بالكتابة.
منذ مجموعته القصصية الأولى «دخان من قلبي» (1961) حتى روايته الأخيرة «الولي الطاهر يرفع يده بالدعاء»، انشغل في مشروعه الروائي بثلاث قضايا رئيسية: «مشروعي أساساً يقوم على تحرير الهوية الجزائرية لتصبح عربية ــــ بربرية ــــ إسلامية». يوضح: «للأسف تحرّرنا سياسياً ولم نتحرّر ثقافياً. في فترة الاستقلال، أسّسنا ملايين المدارس التي تعلّم الفرنسي. حتى إنّنا نشرنا الفرنسية أضعاف ما قامت به فرنسا خلال الاحتلال الذي استمر قرناً ونصف قرن. والبورجوازية الحاكمة أصبحت نخبة تستعمل الفرنسية لغةً للحديث». أما المحور الثاني، فهو تصحيح مفهوم الثقافة في هذا البلد «إذ لم يكن لدينا ثقافة حديثة في السابق ولم يكن لدينا الأدب بالمفهوم الحديث». المحور الثالث هو تحرير المثقف الجزائري من التعصب.
لذا اختارت «جمعية الجاحظية» شعار «لا إكراه في الرأي».
«تحرير» هي الكلمة الأهم التي يكرّرها «عم الطاهر» خلال تناول مشروعه الروائي. لذا، لا يتوانى عن وصف نفسه بـ«المناضل المحترف والكاتب الهاوي». لكن من خلال عشر روايات وثلاث مجموعات قصصية وثلاث مسرحيات وعدد كبير من السيناريوهات والترجمات، أسّس مدرسة أدبية خاصة «أحاول عبرها أن أؤسس لشكل ينبني على العلاقة الجدلية بين الشكل والموضوع، وهذا يجعلني لا أنسج على منوال أي مدرسة أخرى. والقاسم المشترك في هذه الأعمال، هو الخيال الجامح والاستعانة بما وراء الواقع».
لكن ما الذي لم تحقّقه في الحياة وتتمنّى لو يتحقق؟ لم يتحدث عن رواية تمنى كتابتها، أو جائزة رغب في الحصول عليها: «تمنيت لو أني استُشهدت في الخمسينيات مع الذين استُشهدوا!». إجابة صادمة من رجل عاشق للحياة. لكنّ ثقل السنوات كما يقول، يجعل المرء يشعر لو أنّ ديونه لوطنه أدّاها كلها مرة واحدة بالاستشهاد.
ماذا لو عاد الشهداء اليوم؟ يضحك صاحب «الشهداء يعودون هذا الأسبوع»: «سيتحسّرون قليلاً ثم يشرعون في البزنسة»! وهذه سمة أيضاً من سمات «عم الطاهر»: السخرية اللاذعة من الأشياء. مرةً، حكى عن زيارته ليبيا حيث رأى الشاعر العراقي المناضل الذي صعد إلى منصة الاحتفال لينشد الكتاب الأخضر شعراً. لم يتحمل وطار ما حدث، انسلّ من القاعة مغالباً دموعه! لكنّه ضحك في مطار الجزائر من المناضل المصري الذي سافر في السبعينيات إلى باريس معارضاً لنظام السادات. كانا على الطائرة نفسها القادمة من مدينة الجن والملائكة. قال المناضل المصري إنّه قادم إلى الجزائر بدعوة من رئاسة الجمهورية. وعندما هبطت الطائرة، فوجئ بمن ينادي باسمه في الميكرفون: عربة الرئاسة تنتظر سيادتكم! ذهب يجري إلى وطار: يا عم الطاهر أنا..أنا.... سيارة لي من رئاسة الجمهورية تنتظرني في الخارج»!
هذه الحكايات وغيرها بدأ تسجيلها في مذكراته التى صدر جزؤها الأول بعنوان «أراه». تجربة المذكرات تأخرت طويلاً، فهو يحمل العديد من الأسرار والتجارب الصالحة للكتابة. ربما لأنّ «اليقظة تمنعه من البوح» كما يقول. لكن مع إلحاح الأصدقاء، شرع في كتابة الجزء الأول: «كنت أركّز قبلاً على الإبداع باعتباره أهم ما يمكن تركه للناس. لكنّني أحسستُ بالظلم، عندما قال بعضهم إنّ وطار صنيعة للنظام الشمولي أيام بومدين، وصنيعة الحزب الواحد. وقالوا إنّني تخليت عن يساريتي. لكنّ الجميع يعرف أنّني شاركتُ في ثورة التحرير، وتركت دراستي، ولم استثمر هذا الأمر. لذا حاولت في الجزء الأول من مذكراتي أن أقدم ما يشبه المقدمات: من أنا؟ ما هي مكوناتي الروحية والفكرية؟ حاولت أن أشرح معاناتي».
قطعاً، عندما يتجاوز «عم الطاهر» تجربة المرض، سيشرع في استكمال هذا العمل. فلنتركه يخطّط للاحتفال بعشرين عاماً من العمل الثقافي المتواصل في «الجاحظية»!


5 تواريخ

1936
الولادة في دائرة صدراتة (ولاية سوق اهراس حالياً) من أسرة بربرية تنتمي إلى عرش الحراكتة (الجزائر)

1954
التحق بـ «جامع الزيتونة» في تونس للدراسة، وغادر بعد عامين للانضمام إلى جبهة التحرير الوطنية التي بقي منخرطاً فيها حتى 1984

1974
صدرت روايته الأولى «اللاز». وكان قد أصدر مجموعته القصصية الأولى «دخان من قلبي» عام 1961

2006
حصل على «جائزة الشارقة للإبداع الفكري»

2009
العلاج في باريس ــــ يحضّر لاحتفالية كبرى في مناسبة مرور عشرين عاماً على تأسيس «جمعية الجاحظية»