عادت ذكرى أيار مشبعة برغبة الكثيرين في النسيان، لا تقابلها أبداً أي رغبة في الحديث عن الوقائع. لم تكن شهادات أقارب الشهداء القصيرة في معرض البحث عن متهم سياسي، بقدر ما أضاءت على ألم دفين، و«قتلة» فارين من العدالة
أحمد محسن
عام على أحداث أيار 2008، الأحداث التي غيّرت صورة بيروت لبرهة. انتهت الفوضى سريعاً حينها، لكن لم يستطع أحد أن يمحو الموت من الأحداث المتسارعة. تغادر طلقات الرصاص الفارغة أرصفة الشوارع، والمباني تستعيد لونها الأبيض بعد طليها من جديد، لكن ذاكرة أقارب الشهداء، تبقى طريدة الوقت. عائلات الشهداء في بيروت لا تزال تلملم وجعها، وليس من المنطقي أن تشعر بأنها معنية في الانتخابات الآتية، بالقدر نفسه، الذي تبحث فيه عن مكان ترمي فيه أيار 2008 من ذاكرتها. عبد الناصر شماعة، والد محمد، الشاب العشريني الذي قضى يوم 8 أيار 2008 برصاص «مجهول» قرب مسجد عبد الناصر في منطقة كورنيش المزرعة، يرفض التقاط صور له. صار يخاف الكاميرا أيضاً، وصارت الأشياء المصوّبة إلى وجهه كلها أسلحة. كانت زوجة محمد حاملاً عندما قتل زوجها، وبعدما وضعت حملها صار للجدين ما يخفف بعضاً من حرقة الفراق. ولد عبد ناصر صغير، لأبٍ سقط بالقرب من مسجد عبد الناصر، وأصبح الحلقة المفرغة في الحكاية. سقط من الوجود نهائياً بالرصاص. أما عبد الناصر الجد، فمُقلّ في كلامه: «ماذا سينفعني بعدما خسرت شاباً بيسْوَا الدنيا»؟ العائلة لم تتقدّم بادّعاء ضد قتلة ابنها. ترفض الثأر، لكن صلواتها إلى الله ممزوجة بألم الماضي. يبدي الرجل تسامحاً لافتاً: «فحتى الدعاء بغير الخير على من قتلوا ابني لم أتلفّظ به، وإن شاء الله يكون ابني قد استشهد فداءً للبنان». يضيف الوالد مباشرة: «كلنا أهل، وكلنا خسرنا».
رجل آخر، يستسلم للصور التي تراود رأسه، وفيها زوجته وابنه. حسن طبارة لا يقوى على الحديث عن عام كامل، قضاه من دون زوجته آمال بيضون وابنه هيثم اللذين استشهدا بقذيفة أر بي جي أطلقت نحوهما عندما كانا يغادران منزل العائلة في رأس النبع في اليوم الأول من معارك بيروت. قيل وقتها إن القذيفة الصاروخية أخطأت طريقها. الأطفال لا يعرفون شكل القذائف عادةً، وربما يظنونها ألعاباً كبيرة الحجم، لكن هيثم لم يتسنّ له اللهو، إذ فقد طفولته باكراً. أما أبوه، الذي كان صلباً بعد مصابه العام الماضي، فقد زار الطبيب أمس. لم تعد دقات قلبه منتظمة، وانسدّ اثنان من شرايينه، فلا تتدفق فيهما إلا المشاهد التي بقيت له من ماضٍ لن يعود. لم يتقدّم بدوره بأيّ ادّعاء، فذلك «لن يفيد».
حالات الشهداء الثلاثة ليست منفصلة عن أكثر من 100 ضحية ممن سقطوا ابتداءً من 8 أيار 2008، في بيروت والجبل وصيدا وطرابلس وعكار، وعلى امتداد هذا الوطن المشرذم بالنار والاختلاف. معظم القتلة لا يزالون مجهولين حتى اليوم. كان بعضهم ملثماً، وبعضهم اختفى. لم تكلف القوى الأمنية نفسها عناء فتح تحقيق جدي في تلك الجرائم، أو إن «تبويس اللحى» الذي مارسه من هم «فوق»، أودى بحقوق من هم «تحت». وحدهم شهداء أرض جلول كان لهم «قاتل» معروف. أوقف المشتبه فيه. يوم 10 أيار 2008، كانت منطقة الطريق الجديدة تشيّع أحد الشهداء حين فتح رجل النار على موكب المشيعين، فأوقع شهيدين هما: علي المصري وموسى الكفوري. أحيل المشتبه فيه على القضاء، وصدر بحقه قرار اتهامي، وأحيل على المحكمة. في موسم البرودة القضائية هذا، لا يسع أقارب الشهداء إلا الأمل بالعدالة؛ وعلى ذمة محمد الماغوط، الناس «محكومون بالأمل».