strong>مصطفى بسيوني *جاء عيد العمال هذا العام إلى مصر مختلفاً عن سابقيه. فالحركة العمالية التي انطلقت منذ السادس من كانون الأول 2006، بإضراب عمال غزل المحلة، واتسعت وتصاعدت منذ ذلك الوقت، بدأت أخيراً في إنضاج بعض ثمارها. كان عمال مصر على موعد في الأسبوع السابق مباشرة لعيد العمال، وتحديداً في 21 نيسان 2009، مع مولد أول نقابة مستقلة عن اتحاد العمال الحكومي. توجه المئات من موظفي الضرائب العقارية يومها إلى وزارة القوى العاملة والهجرة لتسليم أوراق نقابتهم المستقلة، التي ضمت أكثر من 30 ألف عضو. ورفض العمال الانصراف حتى التقوا وزيرة القوى العاملة نفسها، التي تسلمت منهم أوراق النقابة. وبعدها بثلاثة أيام، وافق المكتب التنفيذي للاتحاد الدولي لعمال الخدمات على قبول عضوية النقابة المستقلة للضرائب العقارية، وانتهى بذلك عهد احتكار العمل النقابي والسيطرة عليه من الدولة.
جاء هذا الحدث نتاجاً لصراع طويل، ترجع أصوله إلى ما قبل نصف قرن، عندما سيطرت السلطة كلياً على العمل النقابي. وهو ما استمر حتى الصعود الأخير للحركة العمالية.
لم يشر إلى هذا الصعود تسارع معدلات الإضراب فحسب ـــــ تجاوزت 800 إضراب في عام 2007 ـــــ ومشاركة ما يقرب من مليون عامل وعاملة في التحركات والاحتجاجات العمالية، ولكن التزايد الكمي حمل معه تحولات كيفية أيضاً، تساهم في تطوير الحركة العمالية. وأهمها أن الاحتجاجات العمالية تحولت من أحداث عفوية في أغلب الأوقات، تقع فجأة نتيجة تزايد الضغوط أو حوادث العمل، إلى أحداث على درجة أعلى من التنظيم يرتب لها العمال ويعلنون المطالب قبل إطلاقها بأسابيع، ويحدّدون الموعد ويضربون فيه. وبهذا انتزع العمال حق الإضراب الذي ظل مجرَّماً في مصر لفترة طويلة، ومعه مكسب جديد وهو حق التفاوض. فالإضرابات في مصر لم تعد تنتهي بقرار من جانب الحكومة، سواء بفضها بالقوة أو بتنفيذ المطالب العمالية، بل بعد مفاوضات بين العمال وأصحاب الأعمال أو السلطات.
إن تنظيم الإضراب، وإعداد مطالبه، وتسيير الأمور خلاله، وممارسة المفاوضات، ضرورية لتطوير قيادات طبيعية من بين العمال، وآليات تنظيمية ترفع الحركة في كل مرة نقطة إلى أعلى. وهو ما أتاح ظهور تطورات هامة في الحركة العمالية المصرية، وربما يعكس مشهدان المسافة التي قطعتها الحركة:
المشهد الأول عندما تظاهر أكثر من عشرة آلاف عامل وعاملة من شركة غزل المحلة في 17 شباط / فبراير 2008 للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور لكل عمال مصر إلى مستوى خط الفقر الأعلى لأسرة من 4 أفراد، فكان العمال يتظاهرون وقتها كجزء من طبقة لها مصالح واحدة.
المشهد الثاني كان توجه ما يقرب من عشرة آلاف موظف وموظفة من الضرائب العقارية من كل محافظات مصر لنقابة الصحافيين في القاهرة لعقد المؤتمر التأسيسي للنقابة المستقلة، دون أن يصاحب ذلك أي مطالب خاصة برفع الأجور أو ظروف العمل مباشرة. كانوا قد حصلوا بالفعل على زيادة في الأجر بنسبة تزيد على 300% بعد إضرابهم في كانون الأول/ ديسمبر السابق، ولكنهم قرروا امتلاك السلاح الذي يحمون به المكاسب ويحققون أخرى.
قدمت الحركة العمالية نفسها للمجتمع المصري تقديماً جديداً، وعكست إمكانيات في التطور لم تضاهها فيها أي حركة أخرى. وكان طبيعياً أن يكون لها تأثيرها، لذا انتقلت آليات الكفاح العمالي عبر المجتمع لنجد إضرابات لفئات اجتماعية لم تكن معتادة على ممارسة الإضراب، مثل الأطباء والصيادلة وأساتذة الجامعات وأصحاب المقطورات ولاعبي السيرك!
لا يمكن لأي حزب أو قوى سياسية ادعاء الفضل في إضافة ذلك التأثير للحركات الاجتماعية أو حتى نقله. فتلقائية تأثير الحركة العمالية عبر أخبار الإضرابات والانتصارات هي التي أدّت الدور الرئيسي في تطوير الحركات الاجتماعية الأخرى، وخاصة أن الصعود العمالي جاء مع التراجع الملحوظ في حركات النضال الديموقراطي والسياسي في عام 2006.
جاء عيد العمال هذا العام والطبقة العاملة تتخذ مكاناً متقدماً في المجتمع، وتتطور هي نفسها وتصبح أكثر تنظيماً بفضل نضال السنوات الثلاث السابقة. ولكن ما هي آفاق هذا التطور؟ توقيت صعود الحركة العمالية وامتدادها جاء حرجاً وحساساً من أكثر من ناحية. فكما ذكرنا جاء صعود الحركة العمالية مع تراجع الحراك السياسي في مصر. ومن ناحية أخرى تقاطع امتداد الحركة العمالية مع أزمة اقتصادية تبدو طويلة وتصعّب أي عملية استيعاب للحركة العمالية. فعادة ما يسمح الاستقرار الاقتصادي بتهدئة الأوضاع عبر تلبية بعض المكاسب الجزئية، ولكن مع انفجار الأزمة الاقتصادية بينما الحركة العمالية في حالة صعود، تصبح عملية السيطرة على الحركة صعبة، إذ لا تمتلك الجهة المقابلة الكثير لتتنازل أمام العمال. ربما عبّر خطاب مبارك في الاحتفال الرسمي بعيد العمال صراحة عن هذه الحقيقة عندما دعا العمال للبعد عن الإضرابات «غير القانونية».
لم تمتد بعد ظاهرة النقابات المستقلة إلى كل قطاعات العمال. ولكن المسار الذي اتخذه تطور الطبقة العاملة في السنوات الماضية يؤكد أن ما قدمته إلى الآن ليس سوى جزء مما لديها. وأنها، كما خلقت معنى جديداً لعيد العمال يختلف تماماً عن المعنى الذي اعتاده المصريون، ويتمثل في العبارة السقيمة «المنحة يا ريس»، لمناشدة رئيس الجمهورية بمنحة عيد العمال، فإنها تختزن «أعياداً» أخرى في المستقبل.
* صحافي مصري