سلام الربضي*تمارس مختلف القوى الاقتصاديّة، سواء كانت حكومية أو خاصة، إضافةً إلى المؤسسات الدولية المالية والتجارية، ضغوطاً لتأمين حرية انتقال السلع والخدمات والرساميل. ولكن ما يحدث على صعيد قطاع العمل هو العكس تماماً، حيث توضع وتفرض مختلف القيود والعراقيل لمنع انتقال قوى العمل البشري أو هجرتها. وإذا كانت أهم سمة يمتاز بها الاقتصاد العالمي الحالي هي ما يسمى العولمة المالية، فإن القسم الأكبر من رأس المال العالمي يوظف في المضاربات والأسواق المالية، وهو الأمر الذي ينعكس سلباً على قطاع العمل، حيث تخلق هذه الأموال الضخمة التي توظّف في الأسواق المالية فرص عمل ضئيلة جداً، مقارنةً بحجمها. كما أن التقدم العلمي والتكنولوجي ترك آثاراً سيئة على سوق العمل البشري بسبب ضآلة فرص العمل التي يجري خلقها من جهة مقارنةً بما يتم الاستغناء عنه من وظائف نتيجة هذا التقدم. وإذا كان الخلل واضحاً في العلاقة بين المال والعمالة التي تنعكس سلباً على الاستقرار الاجتماعي العالمي، فإن العلاقة أيضاً بين الشركات عبر الوطنية وعالم العمل تعكس عمق الأزمة التي يعانيها سوق العمل.
في ما يتعلق بتسريح العمال، الغريب أن عملية التسريح كانت تجري سابقاً عندما تتعرض الشركات للخسارة. لكن في وقتنا الحاضر يجري التسريح عندما تكون الشركة في حالة من الربحية. وهذا ما يعانيه سوق العمل في صناعة السيارات في ألمانيا، حيث تعمل كل من شركة فولكسفاكن وشركة دايملر كرايزلر على تسريح ما يقارب ثلاثين ألف عامل لمواجهة متطلّبات العولمة المتزايدة. ولقد سرّحت شركة «IBM» خلال خمسة أعوام ما يقارب122 ألفاً من موظفيها، وخفضت مجموع الأجور بمعدل الثلث، وذلك لزيادة أرباحها ورفع أسعار أسهمها. وعملت الشركة على وضع خطة مستقبلية للاستغناء عن 15 ألف عامل، والسبب المعلن هو تحسين كفاءة الشركة ورفع مستوى إنتاجها. ولقد أثارت عملية الشراء التي جرت بين شركة «BENQ» التايوانية وشركة سيمنس لإنتاج الهواتف المحمولة قلقاً كبيراً، حيث تمت عملية الشراء على أساس الالتزام بالحفاظ على أماكن العمل وتطوير الفرع، وهذا الالتزام يمثّل أحد أسباب السعر المتواضع لعملية البيع. لكن بعد سنة أُقفل الفرع مما وضع علامات استفهام حول الثُّغر القانونية لهذه العملية.
ولا شك في أن هذه العمليات من تسريح أو نقل أو شراء ما كانت لتحدث دون التعديلات التي أدخلت على قوانين العمل والتجارة التي ساعدت الشركات على تحقيق أهدافها القائمة على الربحية العالية. وهذه الاستراتيجية المعتمدة من الشركات، أي استراتيجية الربح المرتفع، تمثّل سبباً جوهرياً في تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لقطاع العمل. كما أن سياسات الاتحاد الأوروبي في سوق العمل، تعكس واقع التأزم الشديد للعمال الأوروبيين وما يتعرضون له سواء من جهة منافسة الأيدي العاملة الأجنبية في أوروبا، أو نقل الصناعات إلى الدول ذات التكلفة المتدنية للأيدي العاملة. إن رأس المال أصبح قادراً على الانتقال إلى ما يسمى دول الأجور المنخفضة أو الزهيدة، فمثلاً القطاع الصناعي الألماني نقل إلى خارج ألمانيا 2,8 مليون فرصة عمل في الفترة الواقعة بين 1991ـ2001. ومن الأسباب الجوهرية لتزايد عدد العاطلين من العمل، وخاصة في الدول المتقدمة، المنافسة التي أجبرت الكثير من المشاريع من أجل ترسيخ قواها وتعزيز مراكزها على نقل الإنتاج إلى الخارج، بحيث أصبح نقل الإنتاج إلى الخارج في البلدان المرتفعة الأجور أمراً محسوماً يتوقف تحقيقه فقط على مجيء اللحظة المناسبة.

فقدان العمل البشري أهمّيته

ترى النقابات العمالية أن التغيّر في شبكات الإنتاج انعكس سلباً على قوتها. فقد جرى توزيع العمل على وحدات كثيرة ومنفصلة بعضها عن بعض، مكانياً وقانونياً. وأدّت هذه التجزئة إلى انهيار القاعدة التنظيمية بالنسبة إلى النقابات العمالية في العشرين سنة الماضية، حين انخفضت نسبة العمال المنتسبين للنقابات من20% إلى10%. وفي غياب أية ضغوط ورقابة من جانب الحكومات، يسود مبدأ الرابح يحصل على كل الثمار. وجاءت الدول والحكومات ونفّذت هذه السياسات قبل الشركات، وهذا ما فعله الرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1980 عندما طرد جميع النقابيين في جهاز السيطرة على حركة الطائرات التابعة للدولة.
لعلّ أهمّ أسباب التحوّل في سوق العمل في الدول المتقدّمة يرتكز على أن الشركات استفادت من الاستثمارات، ولكن المشكلة الأساسية تكمن في أن الحصة التي تستقطعها هذه الشركات من إيراداتها لتنفقها على تشغيل الأيدي العاملة وتحسين أوضاعها في وطنها الأم تبقى في انخفاض مستمر. ألمانيا الشديدة الاهتمام بالتوازن الاجتماعي انخفضت حصة الأجور لديها بمقدار 10% خلال الفترة الممتدة من 1985 إلى 2000. وإذا كانت الدول النامية قد استفادت من هذا الوضع، وإذا كان هدف الشركات مجرد نقل مواقع العمليات إلى مناطق كثيفة الاستخدام للأيدي العاملة والرخيصة الأجر، فما هي الاستفادة التي يمكن أن تحققها هذه السياسة للدول النامية؟
الدول النامية استفادت في نطاق استراتيجية نقل الإنتاج إلى الخارج في كثير من القطاعات. وقدّر حجم الوظائف المستحدثة في جنوب شرق آسيا في المصانع التي استحدثت من أجل إعادة التصدير إلى الخارج بحوالى 200 مليون وظيفة.
وفي إطار التنمية يلاحظ أن النساء يشغلن حوالى ثلاثة أرباع هذه الوظائف، أي ما يعادل 150 مليون وظيفة عمل لم تكن متاحة لنساء الجنوب قبل ذلك. والمجتمع النسائي قد يكون أكثر تضرراً جرّاء الآثار السلبية للعولمة. وفي الإطار العام قد تكون شروط العمل صعبة للغاية ولا تقترن بضمان وحماية اجتماعية وتنظيم نقابي. ولكن العمل في مثل تلك الظروف البائسة، قد يكون خيراً من اللاعمل؟
الدول النامية تستفيد من تلك الأوضاع على صعيد زيادة فرص العمل نتيجة الاستثمارات الأجنبية، ولكن تبقى هي في دائرة الخطر أيضاً، فهي لا تضمن بقاء تلك الاستثمارات. والتجربة الهندية نموذج للدراسة، وهي من الدول التي استطاعت تحقيق قفزة نوعية في هذا المضمار. فقد استطاعت الهند خلال فترة وجيزة التمتع بسمعة عالمية تضاهي الدول الصناعية في مجال الإلكترونيات وجذب الكثير من الشركات العملاقة، ولم تقتصر العملية على جذب الاستثمارات في قطاع البرمجيات. وقد استطاعت الهند أيضاً جذب كثير من الشركات العملاقة في مجال الطيران، فمثلاً الخطوط الجوية السويسرية والخطوط الجوية البريطانية أوكلت إلى شركات فرعية هندية إنجاز أجزاء واسعة من حساباتها، والكثير من المصارف العالمية أوكلت إلى فروعها في الهند مهمة صيانة نظم معالجة المعلومات الإلكترونية وتوسيعها. وعلى الرغم من كل ما تقدمه الهند من تسهيلات لجذب الاستثمارات، فإنها تعاني مصاعب نتيجة المنافسة الحادة مع روسيا التي تتميز برخص الأيدي العاملة لديها، وتدني تكاليف الإنتاج، الذي جعل منها مركز استقطاب للشركات عبر الوطنية، مما يعرض الهند لحالة من عدم الاستقرار.
إذا كان هدف الشركات عبر الوطنية مجرد نقل مواقع العمليات الكثيفة الاستخدام للأيدي العاملة إلى الدول النامية، إضافةً إلى رخص الأيدي العاملة في تلك البلاد، فمن الطبيعي أن يؤدّي هذا النهج إلى زيادة حدة المنافسة بين البلدان التي تتميز بفائض في اليد العاملة. من هنا يجب على الدول النامية التركيز على إقامة استثمارات لأغراض الارتقاء بالمستوى التكنولوجي، والتركيز على إيلاء المزيد من الاهتمام لدور الأسواق المحلية في استيعاب فائض اليد العاملة. كل ذلك يتوقف على عوامل القوة الموجودة لدى الدول النامية، التي تؤهّلها لاتّباع مثل تلك السياسة.
كل الجهود التي يبذلها السياسيون والاقتصاديون للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة في جميع القطاعات لم تحقق النتائج المرجوّة. وكلما ازدادت وتيرة المتاجرة بالبضائع والخدمات عبر الحدود الدولية بكل حرية، ازدادت المصاعب في عالم العمل، حيث هناك تقليص وترشيد يؤديان إلى فقدان العمل البشري قيمته. كذلك لا توجد عولمة حقيقية ولو بالحد الأدنى في ما يتعلق بالعمل البشري. وعلى الرغم من حرية انتقال السلع والخدمات ورأس المال، فإنّ مختلف العراقيل والقيود توضع لمنع انتقال قوى العمل أو هجرتها، وتزيد من الضغوط على عالم العمل الظروف الصعبة الداخلية لجميع البلدان على مستوى العمل، فالعمالة أصبحت تعيش بين فكّي كماشة.
نتيجة المنافسة الحادة ازدادت الضغوط وازداد عدد العاطلين من العمل كما أن الموازنات الحكومية تعاني العجز، وخاصة في أميركا والدول الأوروبية مما انعكس سلباً على عالم العمل. ويلاحظ أن الدول بمعظمها تسير في هذا الاتجاه، ويبدو أن الكثير من الدول أضحت اليوم رهينة سياسة لم تعد تسمح بأي توجه آخر، وإذا كانت التجارة الحرة وانتقال رؤوس الأموال والبضائع والخدمات عبر الحدود هي التي تحقّق النمو والرفاه، وإذا تحقّقت أهداف منظمة التجارة العالمية بإلغاء القيود الكمية وتوحيد جميع الضرائب الجمركية وجعل العالم منطقة تجارة حرة عام2020، فهل يمكن اعتبار أنّ هذا المشروع سيؤدّي حكماً إلى تعميق أزمة سوق العمل، أم أنّه سيكون بمثابة نقطة التغيّر والتحوّل؟ وإذا كانت الشركات هي المستفيدة من العولمة على مستوى خفض تكاليف الإنتاج في ما يتعلق بالأيدي العاملة، فهل يستفيد العمال والنقابات من العولمة من أجل إيجاد إطار دولي عام لممارسة الضغوط واستعادة الحقوق؟

مداخيل العمّال وسلامة المجتمع

شئنا أم أبينا، نحن أمام حقيقة مفادها أن التطور التكنولوجي لم يكن لمصلحة عنصر العمل البشري. فالتطور التكنولوجي صار يحتم استبدال العمل البشري بالآلات والمعدات، والأسواق العالمية المنفتحة تتكاثر فيها صناعات قادرة على المنافسة التكنولوجية، وتصاعد الضغط على دخول العاملين في كل أرجاء المعمورة. فكثير من الصناعات أمست تخفض سعر العمل في السوق العالمية بنحو شديد ومتواصل. والسوق العالمية الحرة تعاقب بلا رحمة ولا هوادة كل مَن تسوّل له نفسه زيادة الأجور بنحو ملموس. وهذه الخاصية تجعل من السوق العالمية أداة تضمن إنتاج البضائع بأدنى كلفة ممكنة. ولقد أدى تحرير التجارة الخارجية وإلغاء القيود على حركة أسواق المال الدولية إلى فقدان العمل أهميته في كثير من الدول. وهذه العمليات من تسريح أو نقل أو شراء ما كانت لتحدث دون التعديلات التي أدخلت على قوانين العمل والتجارة التي ساعدت الشركات على تحقيق أهدافها القائمة على الربحية العالية. وهذه الاستراتيجية المعتمدة من الشركات، أي استراتيجية الربح المرتفع، تمثّل سبباً جوهرياً في تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لقطاع العمل. ويجب الإقرار بحقيقة أن التجارة الحرة تنمو بمنأى عن سوق العمل، بل إنها تترك آثاراً سلبية على سوق العمل. وعلى مستوى البطالة أو على مستوى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعمال، فلقد ارتفعت البطالة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حوالى 7 ملايين عام 1970 إلى حوالى 28 مليون عاطل من العمل عام 2000.
ولقد نتج من التقدم التكنولوجي انخفاض نسبة حصة العمل من العائد المتحقّق في الاقتصاد، في المقابل فإن حصة رأس المال من العائد تزداد زيادة مطّردة. واحتدام المنافسة بين الدول، سواء أكانت صناعية أم نامية، على خفض الأجور إلى أدنى المستويات لن يؤدّي إلا إلى نتائج وخيمة وسوف ينشئ على مستوى العالم أجمع حركة لولبية تدفع الأجور إلى المزيد من الانخفاض.
أمام هذا الواقع، تطرح إشكالية مَن يتحمّل الأعباء: رأس المال أم العمل؟ والحكومات ترمي الأعباء الضريبية على كاهل عنصر العمل أكثر فأكثر، والإعفاءات والتسهيلات والمنح الضرائبية المقدمة للشركات ينتج منها انخفاض في إيرادات الدولة المالية التي تعوّضه عن طريق زيادة الضرائب على الطبقات الاجتماعية الأخرى أو عن طريق تقليص الخدمات والرعاية الاجتماعية والصحية.
تفاجئ السرعة الفائقة في توفير المبالغ الخيالية لحل الأزمة المالية العالمية 2008 مقابل العسر الذي يعرف عادة في تمويل برامج متواضعة لفائدة الإنسانية. على سبيل المثال، يكفي مبلغ
المليار دولار سنوياً للقضاء على الجوع وسوء التغذية في العالم كله، وقد أقرت الأمم المتحدة في نهاية الستينات من القرن الماضي برنامجاً لتحقيق هذا الهدف، لكنه بقي حبراً على ورق لعدم توافر التمويلات الضرورية!؟
* باحث في العلاقات الدوليّة