انتهت المرحلة الأولى من مشروع الإرث الثقافي في صور، وستبدأ قريباً المرحلة الثانية التي تشمل الميناء والساحات. حتى الآن، نتائج المشروع تحافظ على طابع المدينة وهويتها، وأزالت عنها ستار البؤس. فماذا عن المرحلة الثانية؟
آمال خليل ـــ كامل جابر
من المقرر خلال شهرين من اليوم، أن يتزامن دخول المرحلة الأولى من مشروع الإرث الثقافي، حيّز الاستخدام الأهلي والرسمي، مع الشروع في تنفيذ أشغال المرحلة الثانية منه. المشروع الذي يديره مجلس الإنماء والإعمار، تشترك فيه بلدية صور والمديرية العامة للآثار، والمديرية العامة للتنظيم المدني. أما التمويل، فمن «البنك الدولي» و«وكالة التنمية الفرنسية» والحكومتين الإيطالية والفرنسية ومجلس الإنماء والإعمار، بكلفة بلغت نحو مليونين و600 ألف دولار.
بعد أكثر من أربع سنوات، انتهت المرحلة الأولى من المشروع التي تضمّنت أعمال ترميم وتجميل وتأهيل للكورنيش البحري الغربي والواجهة الغربية مع عدد من البيوت التراثية المتجاورة، التي يعود بناؤها إلى العهد العثماني. وأصبح من الصعب على المتجوّل في المنطقة التي أُنجزت فيها المرحلة الأولى من مشروع الإرث الثقافي أن يتذكّر الخراب الذي كان يسِم هذه المنطقة. خراب منتشر لدرجة أن أهلها أطلقوا على تلك الأحياء والبيوت تسمية «الخراب». لكن، لم يعد ذلك الوصف مطابقاً للواقع. فالأبنية أُلبست حلّة جديدة وألواناً باتت تُعرف بها البيوت لدى الناس أكثر من أسمائها المعتمدة. فبيت الخشن مثلاً سميّ البيت الأبيض، نسبة إلى الطلاء الأبيض الذي غطّى جدرانه، فيما «أصفر» هو بيت المملوك و«أخضر» بيت بارود. أما الكنيسة الإنجيلية فأبيضّت!
جنة الألوان المشرقة التي تتناغم مع البحر وما بينهما من طرقات معبّدة وأرصفة واسعة، ما عدا غياب الأشجار وحدائق الزهور، ما زال ينقصها العنصر البشري. وإلى جانب الحركة الخجولة لمحبّي المطالعة التي تشهدها المكتبة العامة في بيت بارود، وبانتظار تشغيل البيوت الأخرى، تفتقد المنطقة الاستثمار الاقتصادي حيث لم يكسر جليده سوى صوريّ واحد قرر تحويل مبنى قديم كان يُستخدم قبل سنوات سجناً للنساء إلى مطعم وفندق صغير.
وكانت وزارة الثقافة عبر المديرية العامة للآثار قد تسلّمت تلك الأبنية في أعقاب ترميمها، وحوّلت «بيت بارود» إلى مكتبة عامة تشرف على إدارتها بلدية صور. أما «قصر المملوك»، فيصبح «بيت المدينة»، أي مركزاً ثقافياً عاماً فيما «المدرسة الإنجيلية» ستكون «معهد علوم آثار تحت البحار» وكنيستها القديمة ستكون فسحة للأنشطة العامة. والمكاتب الإدارية للمديرية العامة للآثار ستُنقل إلى «بيت الخشن» أو «البيت الأبيض». يوضح مسؤول المواقع الأثرية في صور علي بدوي أن الهدف من مشروع الإرث الثقافي «هو الحفاظ على إرث صور التاريخي عن طريق صيانة وترميم مواقعها الأثرية التي يدخل تأهيلها ضمن المرحلة الثالثة من المشروع. فالمرحلتان، الأولى والثانية، تهدفان إلى تجميل المدينة وتحسين الحياة اليومية للسكان».
صيّادو صور وسكان المدينة القديمة ينتظرون الآن البدء بالمرحلة الثانية من مشروع الإرث الثقافي الذي يشمل تأهيل ميناء المدينة وشارعي الحمرا والجعفرية. وكانت إدارة المشروع قد درست قبل شهرين كلفة التأهيل وحدّدتها بنحو 3 ملايين ونصف مليون دولار، ولزّمتها إلى المتعهد، وهي الآن تنتظر صدور أمر المباشرة بالعمل الذي سيدوم سنتين. ومن المفترض أنه في نهاية تلك المدة سيكون للصيادين مبنى جديد لنقابتهم، وسوق نموذجية لبيع الأسماك، ومشغل لمراكب الصيد ومستودعات ومقهى. إضافةً إلى تشجير الساحة المحيطة وإنارتها وتنظيف حوض الميناء وتدعيم «السنسول» واستحداث قنوات في أسفله لتسريب المياه من البحر إلى الحوض. يلحق بمشروع الميناء تأهيل الشارع الذي يربط بينه وبين الكورنيش الغربي.
أما القسم الثاني من المشروع الذي ينطلق بالتوازي، فهو تأهيل ساحة «البوابة». وستستلزم أعمال التأهيل تدريجاً استبدال مواقف السيارات والأسواق الشعبية للخضر والألبسة واللحوم بأكشاك نموذجية. ويضاف إلى التأهيل استحداث أرصفة جديدة بمواصفات عالمية.



وبموازاة مشروع الإرث الثقافي، قامت بلدية صور، بتأهيل الأحياء الداخلية القديمة المرتبطة بطريق «المسار الثقافي». وأعدّت البنى التحتية، ورصفت طرقاتها بـ«البازلت»، وأنشأت شبكة للإنارة. إذ إن مشروع الإرث الثقافي لم يتضمّن خطة تتعلق بهذه الأحياء، على الرغم من ارتباطها ارتباطاً وثيقاً بالمشروع.
وتؤكد مصادر البلدية أن هذه الأحياء ستستفيد استفادة مباشرة، أو غير مباشرة، من المشروع، معنوياً واجتماعياً وتربوياً، من خلال المؤسسات الثقافية التي نشأت على حدودها، وكذلك سياحياً لما تتمتع به من مواصفات تراثية.
ويؤكد الدكتور شريف بيطار، المهندس المعماري الممثل لمجلس الإنماء والإعمار، «أن عملية التنفيذ لن تزيل أي مبنى، حتى لو كان مخالفاً، وخصوصاً أن معظم هذه الأبنية تعود إلى ما قبل عام 1964»، و«قد شرّع القانون اللبناني أي تعديات تسبق هذا العام. أما الجزء المتعلق بمنطقة «البوابة»، فلن يشهد عملية تغيير جذرية، بل بعض التبديل في المواقع التي تدفع الأمور نحو الأحسن». ويشير إلى أن اللقاءات بشأن الأسواق مع المعنيّين خرجت بخطة وخرائط تتضمن تغييراً متواضعاً على توزيعها الحالي «مما سيجعل منها أسواقاً أكثر تنظيماً، والأقرب إلى متناول الناس والرواد من ضيوف وسياح».

الصياديون بين الخوف والترحيب بالمشروع




«نحن رحبنا بفكرة مشروع الإرث الثقافي والمرحلة المتعلقة بميناء الصيادين، لكننا غير مطمئنين إلى الوعود التي نسمعها. من حقنا كمواطنين أن نخاف من المجهول»، بهذه الكلمات عبّر نقيب صيادي صور ومنطقتها خليل طه عن قلق الصيادين «تجاه خطة الإرث الثقافي، التي يجب أن تحوّل ميناء الصيادين إلى سوق نموذجية وتراثية، كثيراً ما مثّلت حلماً لهم «أسوة بباقي أسواق لبنان، وكذلك بأسواق الجنوب الساحلية».
من أجل تبديد بعض هذا القلق الذي يعتري صيادي الأسماك من مشروع الإرث الثقافي، نُظمت ثلاثة لقاءات بين النقابة والصيادين من جهة، وبين مجلس الإنماء والإعمار وبلدية صور من جهة ثانية، أبدى خلالها الصيادون خشيتهم من هدم المبنى الحالي للنقابة «قلنا: إذا أزلنا المبنى، فأين سيذهب الصيادون؟ وخصوصاً أن نحو 250 شخصاً يجتمعون يومياً في هذا المبنى. وقد مررنا بتجربة سابقة قاسية بعدما هدمت إسرائيل المبنى السابق، بقينا مدة طويلة نجتمع في كونتينر قبل أن يسعى الخيّرون إلى إنشاء المبنى الحالي؛ لذلك تلقينا وعداً بأن يرمّم المبنى الحالي ويجري تجميله تراثياً». يقول طه، مبدياً إعجابه بالخرائط والصور التي عرضت للميناء، والمبنى والسوق والحدائق بعد تنفيذ الخطة الثانية من مشروع الإرث الثقافي. ويقول «المشاريع جميلة بالصور لكننا نريد الفعل والتطبيق، نأمل أن يكون الفعل مثل الصور ونحقق حلمنا بسوق نموذجية نعرض فيها أرزاقنا، وبميناء يستطيع أن ينظم حركة الصيادين ويستوعب مراكبهم».
يشير محمد بحر، المهندس المعتمد في الإشراف من جانب بلدية صور، إلى أن «البوابة» وميناء الصيادين، «هما المنطقتان الأكثر استفادة من المرحلة الثانية من مشروع الإرث الثقافي، إذ ستشهدان تغييراً بنيوياً في وجهة استخدام ساحاتهما».
ويوضح أن خطة تنفيذ المرحلة الثانية ستترافق مع عملية تنظيف حوض الميناء ومسارب المياه. وستراعى أهمية أن تبقى الواجهة البحرية واضحة ومكشوفة بعد تأهيل الساحات و«ترميم مرابض مراكب الصيادين، وإضافة سنسول جديد، سيغطى الظاهر منه بطبقة تجميلية من خشب، وإيجاد صناديق للعدة والأدوات التي يستخدمها الصيادون مقابل مرابض المراكب؛ وإنشاء مستودع للأدوات اليومية التي يجري الاستغناء عنها بعد عودة البحّارة من الصيد وسوق للبيع بالمفرق وآخر للجملة ورصيف يراوح بين 13 متراً و17 متراً».
ويتوقع بحر، مع تأهيل منطقة الميناء، أن يتحول القسم الأكبر من دكاكينها ومحالّها إلى مطاعم واستراحات تنمّ عن الجدوى الاقتصادية لمشروع الإرث الثقافي. «نحن نخلق الظروف المؤاتية، وعلى الناس أن يسعوا إلى التبديل، بدءاً من دراسة جدية لوظائف المحالّ والدكاكين، وانتهاءً بمساعدتنا على قبول تنفيذ الخطة ومراحلها. نحن لم تكن غايتنا تأهيل الحجر فحسب، بل تطويع الحجر في خدمة البشر».
خطة المرحلة الثانية من المشروع يُفترض أن تستمر نحو سنة ونصف سنة. وهي أضحت مكتملة التحضيرات «ولا تحتاج إلا إلى إذن مباشرة من مجلس الإنماء والإعمار. وسيكون سكان وتجار الأحياء الواقعة ضمن المسار التراثي، هم الأكثر استفادة»، يقول محمد بحر، ويشير إلى أن دور البلدية في هذا المجال لا يتعدى المراقبة ومتابعة التنفيذ.
لا يتوقع القيمون على تنفيذ مشروع الإرث الثقافي تغييراً جذرياً يحوّل المنطقة بين ليلة وضحاها إلى خلية ثقافية واقتصادية وسياحية؛ بل يعوّلون كثيراً على تقبل الناس للمشروع التجميلي المترافق مع جملة من الخطط تنقل مدينة صور على مراحل، تميّزها بين ما كانت عليه قبل مشروع الإرث الثقافي، وما آلت إليه بعد تنفيذه.