خالد صاغيةحين رفع تيار المستقبل شعار «لبنان أوّلاً»، صدرت مواقف منتقدة فسّرت الشعار على أنّه دعوة إلى نقل لبنان من طرف فاعل في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي إلى رأس حربة في المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي. ورأت تلك المواقف أنّ القول بتحييد لبنان ليس عملياً إلا نقله إلى الضفّة الأخرى من الصراع في المنطقة.
لم يحسن تيار المستقبل الدفاع جيّداً عن شعاره، لكنّ الموسم الانتخابي فسّر كلّ شيء. فالحملة الانتخابية التي نظّمها تيّار المستقبل على طول الأراضي اللبنانيّة حملت عشرات الشعارات التي تنتهي كلّها بكلمة «أوّلاً». فالمستقبل الذي يرفع اليوم شعار «انتخب أوّلاً»، أرفقه بـ«الأمن أوّلاً»، «الشغل أوّلاً»، «الاستقلال أوّلاً»، «العلم أوّلاً»، «العدالة أوّلاً»... إلى آخر الـ«أوّلاً» التي تضيع معها الأولويّات، ما يعني أنّ المهمّ في شعار «لبنان أوّلاً» لم يكن لبنان نفسه أو موقعه من الصراع في المنطقة، بل مجرّد ولع بتتفيه الأولويّات.
ثمّة من كان عليه أن ينبّه إلى أنّ «أوّلاً» ليست لازمة، ليست مثل «إيه ويلّا». لكنّ ما قام به المستقبل يندرج في إطار تراث تياره الذي كان مؤسّسه الرئيس رفيق الحريري قد رفض لدى تسلّمه السلطة تحديد الأولويّات الاقتصاديّة، معتبراً أنّ اللبنانيّين بحاجة إلى كلّ شيء، ناسفاً بذلك جدوى وجود علم الاقتصاد نفسه القائم على توزيع الموارد وفقاً للأولويّات.
يومها، كان تعميم الـ«أوّلاً» جزءاً من سياسة الوعود الربيعيّة، ومن صورة الرجل القادر على تحقيق أحلام اللبنانيّين، الآتي من خارج نادي الميليشيات وأمراء الحرب. رجل الأعمال الناجح الذي سيعمّم نجاحه على إدارة مرافق الدولة.
لم ينتبه القيّمون على تيّار المستقبل اليوم إلى أنّ الوضع بات مختلفاً، وأنّهم ورثوا فشل سياسات عمرها خمسة عشر عاماً، وأنّ برنامج تيار المستقبل نفسه الذي كان قد أذيع في مهرجان سابق، يتضمّن نقاطاً عديدة هي نقيض ما انتهجه الرئيس الحريري خلال سنوات حكمه.
لم ينتبه المستقبليّون إلى أنّ الدين العام لم يتنامَ بفعل عوامل المناخ، وأنّ المضاربات العقاريّة التي رعوها حوّلت بيروت عاصمة عصيّة على سكّانها، وأنّ المؤشّرات الاقتصادية كلّها تشير إلى تدنّي مستوى عيش اللبنانيين.
حتّى لو تذرّع المستقبليّون بالوصاية السوريّة، وبما يسمّونه النظام الأمني اللبناني ـــــ السوري المشترك، فإنّ ذلك لا ينفي أنّنا بتنا في مرحلة مختلفة، وأنّ آمال اللبنانيين باتت مختلفة، وطموحاتهم أكثر تواضعاً. لم نعد ذاك الشعب الخارج من حرب أهليّة، والذي يصدّق أنّ أفقاً جديداً سيفتحه السلم الأهلي. بتنا نعرف أنّ هذا النظام المسؤول عن الحرب هو نفسه المسؤول عمّا بعدها، وعمّا بعد بعدها.

■ ■ ■

انتخب أوّلاً.
الاستدانة أوّلاً. إفقار الفقراء أوّلاً. إثراء الأثرياء أوّلاً. الإعفاءات الضريبية للشركات أوّلاً. مصلحة البنوك أوّلاً. فرض الرسوم على المواطنين أوّلاً. التهجير أوّلاً. «تشتشة» السيّاح الخليجيّين أوّلاً.
انتخب أوّلاً.
النفخ في نار الطائفيّة أوّلاً. أموال العائلة الحاكمة أوّلاً. مرجعيون أوّلاً. التحريض أوّلاً.
انتخب أوّلاً.

■ ■ ■

في مقابل الأولويّات الضائعة، يطرح ميشال عون شعار «الجمهوريّة الثالثة». وهو في ذلك يبدو أقرب إلى رفيق الحريري حين جاء أوّلاً إلى الحكم. الثاني تحصّن بكونه أتى من خارج الزمن الميليشيوي، بأنّه لا يشبه سواه من السياسيين، بأنّه لا ينتمي إلى الطاقم السياسي أصلاً. أمّا عون، فيتسلّح بكونه لم يشارك في الحكم طيلة الحقبة السوريّة، وبأنّه هو الآخر لا ينتمي إلى الطاقم السياسي التقليدي. وإذا كان الحريري دغدغ آمال الناس بخلفيّته الناجحة كرجل أعمال، فإنّ عون يفعل الشيء نفسه من كونه قائد الجيش السابق الذي خاض حرب تحرير ضدّ الجيش السوري وحرب إلغاء ضدّ الميليشيات، ويرفع عالياً شعار مكافحة الفساد وإصلاح ما أفسده السياسيون التقليديون وحلفاء سوريا.
لكنّ الحريري جاء في زمن أنهكت فيه الحروب الطوائف. أمّا عون، فيطرح جمهوريّته الثالثة في لحظة الاستنفارات الطائفيّة القصوى. تلك اللحظة التي تبدو فيها الجمهوريّة في أسفل الأولويّات. في أسفل أولويّات عون نفسه، ما لم تكن طائفته على رأس تلك الجمهوريّة، أو ما تبقّى منها.