محمد بنعزيز *بدأت التسخينات في المغرب استعداداً لانتخابات 12/06/ 2009. ويمكن التمييز بين ثلاثة مرشحين: مرشح القبيلة، المرشح المتبرجز والمرشح المسيس. ولحملة كل واحد دعامة ملائمة. الأول هو ابن القبيلة البار، يحرص على الترشح في مسقط رأسه وبين أهله، لا رابط سياسياً بينه وبين مرشحي حزبه في الدوائر الأخرى، فجلهم التحق بالحزب في آخر لحظة، بحثاً عن التزكية، وغالباً لم يلتقوا قط. هدف المرشح هو احتكار الوجاهة في قبيلته، مما يقربه من السلطة ويسهل عليه تدبير أموره وخدمة أقاربه كوسيط، أي سمسار، وهذه خدمة معتبرة، حيث تكثر النزاعات.
يريد المرشح القبلي أن يفوز مهما كلفه ذلك، لا مكان للتراجع في القبيلة، فالمساومة ضد الرجولة (بمعنى أنها أنوثة) والفوز هو النخوة.
وسائل التأثير الرئيسية لهذا المرشح هي «الدم الذي لا يصير ماءً»، وباسم الدم والأخوة في الرضاعة والجيرة، يطلب المرشح من ناخبيه ألا يتخلوا عنه، يعانقهم ويقبلهم، وخاصة كبار السن، يعانقهم ولا يحدثهم عن السياسة، لذا يجد مشاكل في التواصل مع الشباب.
يملك هذا الأسلوب في التواصل فعالية خاصة في البوادي، حيث هناك ساكنة متجانسة، فما أن يعطي أحد رجال فخذ أو بطن قبيلة وعداً بالتصويت لمرشح معين حتى يتبعه أهله وأقاربه، ومن يخرج عن إجماع القبيلة يعزل، يعاقب، وهكذا يصبح الانتخاب إرغاماً لا اختياراً.
تعرف البوادي نسبة مشاركة عالية مقارنة بالمدن، وقد أدرك الكثير من المرشحين أن مفتاح النجاح في البوادي، وهذا ما يفسر سفر موظفين سامين من العاصمة إلى قرى نائية للترشح فيها، لأن بها فرص فوز أكثر. بفضل أبناء العمومة والأصهار وأصهار الأصهار، يتوحدون ويمّحي الصراع الطبقي، بحيث يساند الفقير المعدم ابن عمه الثري ضد «البراني» في اصطفاف عمودي شاذ.
في الانتخابات المغربية، «البراني» هو الذي ينتمي إلى قبيلة أخرى، يهجم عليه الكل دفعة واحدة، لذا تقع مواجهات، وتُتبادل شتائم حين يذهب مرشح من قبيلة معينة للقيام بحملته في أرض قبيلة مرشح آخر. فأنصار هذا الأخير يعتبرون تحرك غيرهم في أرضهم مساساً بهم، لذا يرددون شعارات تطالب الغرباء بالانصراف. وهذا سلوك يتعارض مع مبدأ الوطن للجميع.
وتتخلخل هذه الدعامة عندما يتقدم مرشحان من القبيلة نفسها، كل واحد منهما يقسم بالدم والرضاعة، حينها يصير الدم ماءً، ولا بد من عوامل أخرى لتحديد الأقوى.
من الواضح أن الانتخابات تستثمر القبلية وتخربها في آن. والنتيجة أنه بمرور السنين، تقل احتمالات فوز أصحاب الدم، لأن الانتخابات تسبب شروخاً داخل القبيلة، وتزعزع البنى التقليدية، فتتوزع الأصوات. وهذا ما بدأ يحصل في المدن، حيث يؤدي تلاشي الروابط الدموية بين المهاجرين وقراهم إلى ظهور علاقات زبونية جديدة.
المرشح الثاني شخص «برجوازي»، وهو توصيف مضلل، لأن البرجوازية تحيل على قيم لا صلة بينها وبين هذا المرشح. لنقل إن المرشح من أعيان المدينة، يترشح لتقوية موقعه أمام أشباهه، لديه استراتيجية واضحة: ينفق الآن ما سيحصّل ضعفه لاحقاً. اذاً، فالانتخابات بالنسبة إليه مقاولة أيضاً، تقترح على المصوتين تبادل مصالح. وهكذا تدور الحملة الانتخابية وفق آليات دكان الحي.
المرشح ثري يستثمر في الاقتصاد السياسي، يقدم منافع لناخبيه «الأوفياء»، مثل عمال مصنعه أو فندقه، وهو متأكد من أنهم سيصوتون له آلياً لأنه يسيطر على مصدر رزقهم وعلى أصواتهم وأصوات أسرهم وأقاربهم من المستفيدين الحاليين والمحتملين، وخاصة أنهم يتلقون دوماً وعوداً بالتشغيل أو المساعدة.
في تعامله مع غير عماله ومن يتصل بهم، يتحرك المرشح في موكب سيارات دفع رباعي لترهيب الناس، يؤمن بأن موارد الحملة الانتخابية هي الخراف المشوية، لأن إدام الخراف المشوية أقوى من أي مهرجان خطابي.
وهذا الإدام فعال لأن الناخب يسعى للاستفادة قدر المستطاع قبل نهاية الحملة، يأكل ويأخذ معه اللحم لأهله، فأسعار اللحم مرتفعة، ومن يطبخه ويقدمه بكثرة فهو كريم ويستحق الفوز. اللحم هو وسيلة الإقناع، وهو أكثر تأثيراً من الخطابات السياسية، وقد أقام مرشح نبيه وليمة وضع فيها أمام كل خمسة «مصوتين محتملين» خروفاً مشوياً كاملاً. وقد كان هذا حدثاً خارقاً سارت بذكره الركبان، لأن أحداً لم يقدر على المزايدة عليه، فالمزايدة في الكلام أسهل من المزايدة في الشواء.
لكن كثرة الولائم صارت شبهة، لذا يسارع المرشحون المتبرجزون إلى الجنازات لإطعام المعزين، كما يتسابقون إلى حفلات الزواج لتقديم الهدايا وإطعام الأنصار المحتملين، وهم أنصار ظرفيون قد لا يمتد مفعول ما أكلوه أكثر من يوم، فإذا حضروا وليمة أدسم نسوا ما قبلها، لذا يحرص المرشح على أن يقسموا أمامه «على العيش والملح»، من دون ذكر اللحم الذي يجمعهم.
في مغرب اليوم، يفوز أصحاب الدم واللحم والمنافع. وبعد الانتخابات يبقى العظم المكسور بين أسنان المصوتين. لكن كلما ازداد عدد الذين يؤمنون بكرامتهم ومواطنتهم، ضعف تأثير الدم واللحم في الحملات الانتخابية، لمصلحة شكل حديث من التواصل.
المرشح الثالث متمرس وليس وافداً على السياسة يوم الانتخابات، إنه شخص عميق التسييس، متشبع بفكرة أن السياسة هي خدمة المصلحة العامة، لديه خطاب سياسي منسجم، يستطيع التحدث وليس أبكم، قادر على الجدل، أي فن الاعتراض والاقتراح، قادر على التواصل، يعمل على تأطير المواطنين، يخاطبهم باعتبارهم رأياً عاماً لا كأفراد مستقلين بعضهم عن بعض... وهو يركز حملته على شحذ العزيمة لا تقديم الوليمة، يستهدف عقول الناخبين، باعتبارهم مواطنين بغض النظر عن أصولهم وثرواتهم وقبائلهم، إنهم سواسية بالنسبة له، الغريب مثل ابن العم.
ولأنّه يسوق أفكاره، وهي دعامة حملته، فإن المرشح الثالث يقوم بحملة نظيفة ذات كلفة معلومة، حملة تقوم على إقناع الناخب، على مخاطبة العقول بدل البطون، حملة تستهدف مواطناً لا يمكن شراؤه أو رشوته، مواطناً يعرف البرامج الحزبية ويحكم على النتائج، مواطناً يختار بناءً على معيار الاستحقاق، مواطناً يفهم أن التصويت هو تعاقد بينه وبين المرشح.
واضح أن هذه الدعامة تواجه صعوبات في مغرب اليوم. الصعوبة الأولى هي أنها تتوجه إلى نخب المدن، إلى الطبقة الوسطى، إلى 3% من المغاربة الذين يطالعون الجرائد، إلى الذين يصوّتون بناءً على موقف فلسفي وسياسي، وهم غالباً يقاطعون التصويت، ليبقى مستقبل المغرب في يد الأعيان والأميين.
الصعوبة الثانية طارئة، وهي استخدام التقوى والجهاد الانتخابي للتعبئة، وهذه خطة الإسلاميين، فهم لا يقدّمون الشواء، لكن يقدمون أنفسهم بديلاً للآخرين، ينظمون حملة انتخابية مختلفة، يسيرون في صمت وانضباط، يتحدثون بأدب، وحين يرتفع الأذان يجلسون أرضاً في الشارع ليصلوا. وقد كان لهذه الحركة أثر كبير في نفوس المارة الذين دهشوا.
ستشهد السنوات المقبلة تزايد دور دعامة الفهم والتقوى في توجيه الانتخابات، وقد يشتد الصراع بين أصحاب الفهم والتحليل من جهة وأصحاب التقوى من جهة ثانية، لذا سيواجه أصحاب الدعامة الثالثة صعوبات وخيبات كثيرة، لكنهم سينتصرون في النهاية.
* صحافي مغربي