أنسي الحاج
نهاية الخطاب
دعوا المعارضة تصل إلى السلطة، فقد آن لها أن تُحاسَب على ما ستفعل. ولتجلس الموالاة في مقاعد المعارضة وتراقب مَن يدينها اليوم. وليقرّر اللبنانيون.
لقد بلغ الخطاب السياسي نهايته، وما زاد فمن الشرّير. دعوا مَن لم يجرّب يجرّب فإذا أفاد كان به وإلاّ فلن تتكسّر النصال إلاّ على النصال.
الموالون يرفعون شعار الحرية والسيادة والاستقلال، فلنرَ إذا تسلّمت المعارضة السلطة ما إذا كانت ستقمع الحرية وتنتهك السيادة وتخون الاستقلال.
وترفع المعارضة شعار الإصلاح والعدالة والتغيير، فلتحكم وليحكم الشعب على النتائج.
خلافاً للظواهر، التمسّك بأسلاب السلطة في رمقها الأخير ليس من الديموقراطية ولا يمكن أن يُنتج غير المزيد من العجز. حين يصبح الوجود في الحكم من نوع لَفْظ الأنفاس فالأوفق ترك الحكم لمَن يأتيه بقوّة، مهما يكن في ذلك من تضحية ومجازفة.
حقّ للمعارض أن يحكم ويبرهن، وإلاّ كانت مرافعاته الهجوميّة والدفاعيّة ثرثرة على ثرثرة. ومن واجب الحاكم الآن أن يتيح للشعب فرصة المقارنة الفعليّة والخروج من روضة الانطباعيّة وسائر الحساسيات.
الخطاب السياسي، ولا سيما في مجتمع يتعامل مع الكلام تعاملاً غير أخلاقي، يحجب الحقيقة. فلننتقل من الأقنعة إلى العري.


شي قرنة
... وبيروت عاصمة عالميّة للكتاب.
كُتُب وأغانٍ.
ماذا نريد؟ ألا يعجبنا شيء؟
لا، لا يعجبنا شيء.
الاستعراضية تأكل الأخضر واليابس. الشاشات تنفجر بالوجوه. القطط تموء في الميكروفونات. بيروت عاصمة عالميّة للبيع والشراء. وكُتُب، يا ما أحلى الجرائد. وترجمات، ضيعان الإعجاب باللغات «الحيّة». حنفيّات فلتانة لا بلا حدود بل بلا ماء. حنفيّات تصبّ الفراغ. كركرة أراكيل العدم. هواء ينفخ هواء. طوشة زراقط بلا لحم، بلا زهر، بلا عسل. زَخّ مطر شفهي قاتل وكتابيّ أقتل.
... على شي قرنة خضرا بآخر ما عمّر ربنا.


الحدود
كلّما ظهر وباء تَذكّرَ الإنسان حدوده. أُخضعَ من جديد لامتحان التواضع، وبالقدر نفسه لامتحان التحدّي من أجل التغلّب على الداء، أي من أجل توسيع حدوده.
لا تُوَسَّعُ الحدود ما لم نعترف بها. لا يَكْبر مَن لا يَصْغر. تروح الآفات وتجيء كالمدّ والجَزْر، لا هذا يتوقّف ولا ذاك. وكلّما وسّعنا حدودنا ضاقت من جديد...


هوّة تتصاعد
سلاحك براءتك وتلك الرحمة، سلاحك خطيئتك وذلك المطهر، سلاحك أحضان هوّة تتصاعد تتصاعد نحو ذرى نشوة لا تعرف انحداراً.


غياب المُخرج
العلاج الرئيسي للحدّ من هَرْقة الممثلين اللبنانيين خصوصاً في التلفزيون هو مخرجون صارمون مستبدّون يقصقصون لهم أجنحة الانفلات ويقمعونهم.
أعدى أعداء الممثل التَصنُّع والدلع. لم يكن عاصي الرحباني خريج معهد تمثيل ولا علّمه ستانيسلافسكي أو غروتوفسكي ولا انصهر في بوتقة أكتورز استديو. لكنّه بالسليقة أدرك ما لا بدّ منه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه: الانضباط والضبط حتى القسوة. الممنوع هو الأساس لا المسموح. الممثّلون مع الأخوين رحباني شيء ومع غيرهما شيء. العلّة الكبرى في التمثيل اللبناني حالياً هي غياب المُخرج.


الخلّ والفاكهة
بين السخرية والفكاهة ما بين الخَلّ والفاكهة. واحدة سكّينة تجرح وثانية «سكّينة بلا نَصْل تنقصها اليد» كما يقول ليشتنبرغ. في الفكاهة تحيّة ومحبّة، في السخرية مرارة وبغض. لكن الفكاهة تدور حول الموضوع بينما السخرية تنقضّ عليه. الأولى تُنعش الجوّ والأخرى تُحرّك الوحل في الأعماق.


في الخوف والرجاء
من أخبار «الأغاني» هذه الرواية قالها حمّاد:
«أتيتُ الفرزدق فأنشدني ثم قال لي: هل أتيتَ الكلب جريراً؟ قلت: نعم. قال: فأنا أَشْعَر أم هو؟ فقلت: أنت في بعض الأمر وهو في بعض. فقال: لمْ تناصحني. فقلت: هو أشعرُ إذا أُرخيَ من خناقه وأنتَ أشعرُ منه إذا خفتَ أو رجوت. فقال: وهل الشعرُ إلاّ في الخوف والرجاء وعند الخير والشرّ؟».


صعوبة البراءة
نصرخ اننا أبرياء...
وهل كنّا سنسعد لو أُعطينا صكّ البراءة؟
أغلب الظنّ، لو حصل ذلك، أنَّ أوّلَ ما سنفعله هو الإسراع إلى الخطايا!
الطبيعةُ تكره الفراغ، ربّما، والطبيعةُ البشريّة تكره البقاء ضمن حدود، تجافي التحَنُّط. البريء الحقيقي هو مَن لا يعرف أنه بريء، مَن لا يُدافع عن براءته. مَن يدافع هو السفسطائي، والسفسطائي غير بريء. بمَ هو متّهم؟ بالادّعاء أوّلاً، وبالادّعاء على الآخر، كلّ آخر، ثانياً، وبعدم الارتياح إلى ذاته، ثالثاً، وبنشر الريبة بَدَل تحصين اليقين.
البراءةُ صعبة على مَن يَعْرف. مستحيلة. البريء الذي يبقى بريئاً مدى العمر جنس خارق، صنف من الملائكة، أو هو كائن مبطّن بسذاجة مستعصية. وبعد أن يمارس عليه الآخرون استغلالاتهم، من أبسطها إلى أحقرها، يغدو صموده في نقائه ضرباً من القداسة.
والبريء يُضايِق. كيف يكون هكذا كصفحة النهر؟ ألا يدري أنه يتسبّب للآخرين بشعور الذنب؟ ألا يعرف أنه محور حسد إن لم يكن مثاراً لنفاد الصبر؟ البريء يضايق لأنه يذكّر الآخرين بأن فيهم هم أيضاً براءة يستطيعون، إن أرادوا، إيقاظها وعيشها. لماذا لا يريدون؟
لأن عدم البراءة ملاءة، أحضانٌ مفتوحةٌ للممكن، استقبالٌ دائمٌ للمغامرة. هذا هو الفرق بين إنسان الجنّة وإنسان الأرض. الأوّل كان مغلقاً على سعادته، كتلة من البراءة والديمومة... لكنه لم يكن يعرف. ولم يكن يعرف الفرق. ولعلّه شعر بما قد تصحّ تسميته «المحدوديّة الفردوسيّة». في منطقة ما من كيانه نشأت بداية رفض لدوّامة الغبطة. صار يريد شيئاً آخر، شيئاً لا يعرف ما هو، لكنه يعرف أنه «غير هذا»، شيئاً قد يكون وراء الأسوار. وأبعد من هذه الرغبة الغامضة أَحسَّ بالحاجة إلى أن يكون جاهزاً لمفاجأة، وأن لا يظلَّ مبرمجاً يجهل إمكاناته. كان أوّل فضول للبريء متطلّعاً خارج الشرنقة...
حكاية الأفعى وحوّاء تشبهها في الجوهر قصيدة لافونتين عن الذئب والحَمَل. المجرم يفتعل ذريعة للفتك بالفريسة. في الرواية الدينية المجرم (أو المذنب، أو مصدر الشرّ) هو الإغراء متمثّلاً بالأفعى الرمز المتقدم للشيطان، وفي الحكاية الشعرية نرى الشرّير مضطراً إلى اصطناع تهمة للنعجة كي يحوّلها إلى مذنبة فيهنأ له أكلها. هنا حلَّ الذكاءُ محل الإغراء، ذكاءٌ «قانوني» حارق، لا تستطيع النعجة البريئة حياله غير أن تمعن في البراءة. شَعَرَ المذنب بالذنب حتّى استحال عليه القتل دون «مساعدة». وساعدته البريئة باستفحال براءتها.
لو سكتت النعجة ولم تدافع هل كان الذئب امتنع عن أكلها؟ الأرجح لا، فسكوت المظلوم يؤجّج نقمة ظالميه، لكنه، في المقابل، قد يزيدهم شعوراً بالخجل أو يُحدِث لديهم نَدَماً بعد الإجهاز على الضحيّة. قصة الذئب والحَمَل تقول إن البراءة والشقاء سيّان.
يسهل على المذنب أن يعيش مع ذنوبه. خلافاً لقصيدة فكتور هوغو عن قايين وخلافاً لمعظم القصص الشعبيّة عن تبكيت الضمير وعن التكفير. نرى ذلك كلّ يوم. من الحكّام إلى المحكومين. من المذنبين الذين يهوّنون ذنوبهم على أنفسهم إلى المذنبين الذين يضخّمون أخطاءهم.
هل يسهل على البريء أن يعيش مع براءته؟
هذا هو السؤال.