يطلّ الموسم الانتخابي، وترتفع معه أصوات المرشّحين وصراخ المهرجانات، في غياب أيّ محاسبة سياسيّة عن الفترة السابقة، وخصوصاً لمن كان في الحكم. وفي الوقت نفسه، تحضر لغة سياسية تساوي الخصوم بالقتلة، والبرامج الانتخابيّة بالتحريض الطائفي
أسعد أبو خليل*
من حقّ الشعب اللبناني أن يحاسبَ ساستَه، لكن الطائفيّة تمنع المحاسبة أو تعوقها. وعندما ألقى أحمد فتفت بملف ثكنة مرجعيون المخزي في حضن نبيه برّي كان يقول له: لنرَ إذا كان شيعي يستطيع أن يحاسب سنياً في مسخ الوطن. وكان مُحقّاً في حساباته طبعاً، لأن برّي نام على الملف نومة أهل الكهف. ولو لم يلجأ فؤاد السنيورة إلى مذهبيّة الزرقاوي والقاعدة في المصلى الخاص به في السرايا الحكومية لكان عرضة للمحاسبة، ليس فقط على دوره المُتخاذل ـــــ في أقلّ تقدير ـــــ أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، بل لدوره في رسم سياسات اقتصاديّة عادت على لبنان بديون وكوارث وإفقار وفساد على مستوى المؤسّسات. (ولماذا لم نسمع بتقوى السنيورة وورعه قبل محاصرته في السرايا؟ لعلّها الصدفة). وزمان الانتخابات ـــــ أو زمان الطائفيّة كما سمّاها زياد الرحباني ـــــ هو زمان المُحاسبة، نظريّاً على الأقل. لكن لماذا تغيب المُحاسبة عن «زعيم» أكبر كتلة برلمانيّة؟ لماذا لا نرى في الإعلام اللبناني ولا بوادر مُحاسبة لهذا الرجل؟ لماذا لم يُدعَ لكشف حساب انتخابي أو سياسي؟ ولماذا تمحو الثروات الآثام والخطايا؟ طبعاً، لو كان الإعلام في لبنان متحرّراً من النفط والثروة لجرت محاسبة إعلاميّة.
من سوء طالع الأثرياء، أن الثروات والذهب والمعادن تُورّث، لكن المواهب والمعرفة والذكاء لا تُورّث. تستطيع أن تورثَ صينيّة من ذهب، ولكن لا تستطيع أن تورثَ دهاءً وحنكة. وابن الشهيد وُلد لأب ثري وطموح عرف كيف يستفيد ماليّاً وسياسيّاً من قربه من الملك فهد بن عبد العزيز في عزّ صعوده وفي عز صعود الحقبة السعوديّة الأولى والثانية. وترعرع الابن في كنف ثروة وحاشية وفي ظل جاه يتأتّى من المال، وهي ظاهرة عالميّة في المجتمعات الرأسماليّة. يُقال إن الابن قضى فترة في صيدا، لكن لا بوادر لمعرفته بصيدا أو حتى بلبنان. ويحصل الأثرياء على الشهادات بسهولة، والواسطة ليست ظاهرة محض عربيّة. يستطيع الأثرياء أي «يُقبَلوا» في الجامعات الأميركيّة أو البريطانيّة الخاصة مقابل تبرّع سخي من أي ثري نفطي أو حربي. وجامعة «إكستر» البريطانيّة تخصّصت في جذب أموال النفط العربي وفي إسباغ شهادات الامتنان، ذات اليمين وذات الخليج.
هناك صديقة عربيّة زاملت ابن الشهيد في جامعة جورجتاون. كان الطلاب يتساءلون في ما بينهم (وبينهن) عن ظروف قبول الصبي الثري في الجامعة. تتذكر أنه كان مفتوناً بدرّاجته الناريّة التي يتأمّلها من نافذة القاعة. يلهو بمفتاحها أثناء الصف الدراسي، ويتألّم لفراقها. كان ينظر إلى هذه الدراجة كما ينظر العاشق إلى المحبوبة ويداعبها. كان الطلاب يذكرونه بعيداً جداً عن أجواء الدراسة والمعرفة وإن كان مُحبّاً للحياة ـــــ الحق يُقال. وهناك زميل أستاذ في الجامعة المذكورة يذكر أنه انتحى به جانباً ذات يوم طالباً منه سماع صوته في الصف، ولو نادراً. كأنك غير موجود، قال له. لكن الأثرياء يتخرّجون ولو بشقّ النفس: هناك طلاب عرب من المحتاجين يتخصّصون في كتابة فروض الطلاب العرب الأثرياء في الغربة. أذكر صديقاً لبنانيّاً ـــــ وهو موسيقي موهوب ـــــ كان يطلق لحيته يوماً ويطلق شواربه يوماً آخر ليتشابه مع صور طلاب خليجيّين أثرياء كان يُمتحن تزويراً بالنيابة عنهم، معتمداً على بطاقاتهم الجامعيّة.
عاد ابن الشهيد إلى البلاد وتسلّم أعمالاً من والده لا لنبوغ فيه بل لأن الأغنياء لا يؤمّنون إلا لأبناهم. أذكر أنني سألت مستشاراً قريباً من الشهيد يوماً عن صحة ما قيل له إن الابن البكر وشقيقه «الزعيم» اليوم كانا يسخران في قصرهما من نضال الشعب الفلسطيني ويتذمّران أمام الحاشية من عدم استسلام الشعب الفلسطيني للعدو الإسرائيلي. أذكر أن المستشار ـــــ وهو مثل غيره باق ـــــ قال لي يومها: أجل، تستطيع أن تعتبر أنهما أميركيّا الهوى السياسي.
اختفى صبي العائلة الثريّة في أعمال في السعودية، واستفاد من عقود مع أهل الاحتلال في العراق، وكان يغوص في جلسات «بزنس» مع أياد علاوي (ودمية الاحتلال الأميركي هذا ـــــ صديق نبيه برّي وغيره من الساسة في لبنان ـــــ ربطته مجلة «النيويوركر» بسيارات مفخخة في العراق أدت إلى مقتل أطفال، كما أنه تنقل في التحالف مع أجهزة استخبارات متعدّدة، وهو يريد لنا أن ننسى أفعاله في أوروبا قبل أن يكتشف حب الديموقراطية ويختلف مع نظام صدام حسين ـــــ لا ندري على ماذا) في قصر قريطم.
لم يسمع الناس بالفتى إلى أن اغتيل والده. وكان الابن البكر يريد أن يخلف الوالد على طريقة العشائر والطوائف في بلادنا، لكن العائلة المالكة كلّفت الأمير سلمان ـــــ الباحث عن المُلك ـــــ تقرير شأن العائلة اللبنانيّة ـــــ السعودية. قرّرت العائلة السعودية، بعد طول تفكير وتمحيص، أن البكر غير مؤهّل بسبب تسرّعه وقلّة صبره. وقع الاختيار وعاد ابن الشهيد إلى بيروت وصار زعيماً للعائلة والطائفة بين ليلة وضحاها.
كان واضحاً أن ابن الثري لا يتمتّع بمؤهلات أو مواهب أو خبرات أو علم أو معرفة. لكن المال في مسخ الوطن يعوّض عن كل شيء. يكفي أن ترى محمد الصفدي أو غيره من الأثرياء في مجلس النواب. هذا مسخ وطن يضعف بنوه أمام أصحاب الثروات. اشتكت عائلات بيروتيّة من أن كلام الابن ذا اللهجة الخليجيّة غير مفهوم منهم. جيء ببيروتي عتيق ليلقّنه أصول اللهجة البيروتيّة التي سرّه تقليدها. وكُلّف مستشار والده المثقّف تلقينه أصول اللغة العربيّة، لكنه كان يتهرّب من تلك الدروس ويتذمّر عندما يصرّ المستشار على مساعدته في قراءة نصوص قرآنيّة أو نصوص للجاحظ. طلب قراءة نصوص معاصرة، لكن الدروس اضمحلّت لأن التلميذ الذي لم ينمَّ يوماً عن نجابة، انشغل بهموم الزعامة و...السفر والترحال والاستجمام، إلى أن طلب منه مستشارون في الإدارة الأميركيّة العودة إلى الوطن بين وقت وآخر. وكانت المهمة الأولى هي التي كلّفه إياها تيري رود ـــ لارسن»، المُكلّف أميركيّاً ـــــ إسرائيليّاً شأن لبنان منذ أعوام. كان على الابن أن يساهم في الفوز الانتخابي مهما كان. كان والده يتمتّع بالمال الوفير، إضافة الى حنكة ودعم خارجي ـــــ سعودي وسوري في آن واحد. اكشتف الابن أن الدعم الأميركي ـــــ السعودي معطاء وغير محدود ما دام ملتزماً شروط المخطط الأميركي ـــــ الإسرائيلي ـــــ السعودي وشعاراته وأهدافه. وكان الرجل سريع الزلّات، لكن الإعلام العربي سعودي وحريري في معظمه، كما أنه استفاد من السذاجة السياسيّة الشهيرة التي تعتري سياسات حزب الله نحو الخصوم اللبنانيّين والعرب. وقد كان الابن صريحاً جداً في أول تصريح له بعد أيام من اغتيال أبيه: قال لجريدة «الواشنطن بوست» إنه سينزع سلاح حزب الله. استأسد الحبّوب عندما طلب منه ديك تشيني المجيء إلى أميركا لتلقّي تعزية رسمية أميركيّة، مع أن والده تعرّض لإذلال شهير من بوش عندما طلب منه الأول دعماً لـ«باريس واحد». أدرجت نشرة عائلته ترجمة للمقابلة من دون الجملة تلك، ولم يلاحظ حزب الله ما حدث، أو أنه لم يكترث. التحالف الرباعي كان سائداً آنذاك. ظن صغير العائلة أنه يستطيع أن يتذاكى بلغتين، على طريقة ملوك بني هاشم في الأردن عندما يناصرون فلسطين بالعربية ويناصرون الصهيونيّة بالإنكليزيّة.
وتسنّى للشعب اللبناني أن يشاهد أداء ابن الشهيد على امتداد أربع سنوات. دشّن إطلالاته على المسرح السياسي عبر مهرجان طائفي ومذهبي في طرابلس عام 2005. تجاوز محظورات في السياسة اللبنانيّة. تخطّى حدود المكبوت والمضمر وجاهر بحملة انتخابيّة فاقعة في تحريضها المذهبي والعنصري. لجأ إلى كل الوسائل التحريضيّة. استعمل الدم بصورة تقزّز حتى الذين تفجّعوا لمشهد التفجير في بيروت. لاحظ بعض رفاق والده النبرة المتدنّية في خطابه السياسي المكتوب له ـــــ لا طاقة له على كتابة جملة فصيحة واحدة، متذرّعاً بأن لغته الأم هي الإنكليزيّة، مع أن فصاحته في هذه اللغة لا تتميّز عن مقدرته في العربيّة. لعله يبدع بالألمانيّة من دون أن ندري. أشار بعض رفاق والده عليه بذكر جمال عبد الناصر في بعض خطبه. ذُهل صبي العائلة. وما علاقة جمال عبد الناصر بالحملة الانتخابيّة في الشمال؟ قال لهم. كان عبد الناصر عزيزاً على والدك، قالوا له. أضاف ذكر عبد الناصر على مضض. لم يرتدع في ما يُكتب له من خطابات: تراه وكأنه يستمتع أكثر بالخطاب إذا كان ينضح بالمذهبيّة والاستغلال الضعيف لاغتيال والده، الذي ترك إرثاً مدمّراً وراءه، في لبنان وخارج لبنان، إذ إنه كان متحالفاً مع أسوأ الزمر الحاكمة في لبنان وفلسطين وسوريا وفي العراق المُحتلّ. لم يحد لحظة عما يشير به عليه الأمير مقرن: وعندما بدا أنه حاد مرّة، اعتذر من المملكة عن خطأ غير مقصود.
تنظر في السنوات الأربع الماضية وتجهد لتعثر على أثر أو وقع له. مرّ مثل غمامة صيف. بدر ونّوس وقاسم هاشم تركا آثاراً أكبر من آثار الفتى العابر. مقابلاته التلفزيونية مثل علك الهواء: لا تترك أي تأثير، وهناك من يقول إن مفعولها على المشاهدين والمشاهدات مثل الحبوب المنوّمة، رغم تلقين هاني حمّود. ترى بعض الفتية في العمل السياسي يظهرون تقدّماً ونضجاً واختماراً، أما هو فلم يتقدّم خطوة واحدة. إنه كما كان قبل أربع سنوات، ولعلّه كما كان قبل عشر سنين، أو أكثر. جال في كلّ أنحاء الكرة الأرضية بطائرته الخاصة محاطاً بفريق لا يقدّم في زعامته ولا يؤخّر. عقاب صقر وباسم السبع وبيار الجميل ومحمد سلام هم جزء من فريق عمله، على ما نقرأ. وقرأنا وسمعنا أنه كان يتحادث هاتفياً لساعات مع بيار الجميل حتى لحظة اغتيال الأخير. ليت نص المكالمات تلك حُفظ في متحف للفلسفة العربيّة والإسلامية.
في حملته الانتخابيّة الأولى بدأ بممارسة عادة يبدو أنه يفضّلها على أسلوب النقاش والمناظرة السياسيّة. كل من يعارضه وكل من عارض والده ينتمي إلى فريق القتلة والمجرمين. وكل من يقترع للائحته «زي ما هي» ـــــ وعندما يقولها يظن هو كما ظن أبوه أنه ظريف ولذيذ الطعم ـــــ هو مُحب للسلم والخير. إنه التكفير على طريقة العائلة الحاكمة.
لم يبد عاجزاً أو متواطئاً كما بدا في عدوان إسرائيل على لبنان. كعادته، ماشى المملكة الوهابيّة. بدأ باللوم وانتهى بادعاء الوطنيّة ومعاداة إسرائيل. جال حائراً بين العواصم ولم يجد أبواباً مفتوحة، فذهب إلى قبرص طالباً من الرئيس القبرصي (وله من النفوذ في العلاقات الدوليّة ما لرئيس وزراء مكرونيزيا) مساعدته في طلب وقف لإطلاق النار، كما عنونت نشرة «المستقبل» السلفي ذات صبحيّة. حاول في تجواله بطائرته الخاصة أن يبدو كمن يعتمد الدبلوماسيّة المكّوكيّة.
يأتي موفدون أجانب راغبين بناءً على أوامر أميركيّة بدعم فريق السلالة الحاكمة (التابعة لسلالة حاكمة خارج لبنان) ويلتقونه في قريطم. يضع صورة لوالده على كرسي قربه فيما يجتمع بالموفدين. وهذا بعد سنوات من الاغتيال. من أشار عليه بذلك؟ هل يدري كم يبدو طفلاً؟ يريد أن يروه حزيناً على والده بعد سنوات من الاغتيال؟ هل يظن أنه ابن العاشرة وأن الوفود الأجنبيّة ستعطف على الفتى المدلّل؟ هل يظن أنه يستدرّ دموعاً من الرجل الأبيض؟ هل هناك من حذّره حرصاً على صورته أنه يبدو مضحكاً لا حزيناً وهو جالس بجانب صورة لوالده على كرسي محاذ؟ من يُخرج له مشاهد حزنه؟ هل تدخل شركات إيلي خوري في الموضوع أيضاً؟ أم أن الإخراج الفني يعود إلى الذوق السعودي الوهابي المُشرف؟
وعندما يُسأل وليد جنبلاط عنه يقول إنه «نضج» وأنه أكثر «خبرة» مما كان. لكن جنبلاط لم يعترف يوماً، ولا حتى في أول عهد الفتى بالسياسة، بأنه كان عديم العلم والخبرة. وأين بوادر النضج والخبرة المستحدثة؟ لكن الفتى يجد لذّته الوحيدة في ليالي التحريض المذهبي في رمضان. هنا، يأخذ مجده ويجود بخطاب مستقى من خطاب بن لادن أو خالد ضاهر. صدق جنبلاط عندما قال إن هاني حمّود هو صانع القرار. وهناك من قال إن مستشار ديك تشيني، جون حنا، كان يدير العائلة في الليالي الحوالك. من الأكيد أنه الأقل تأثيراً في حاشيته في عمليّة صنع القرار. وهو يرحل إلى السعودية قبل اتخاذ القرار دون أن يستر الرابط المُهين، فيما يصدح بشعارات السيادة والاستقلال.
ماذا تقول عن رجل لم يجد، رغم الثروات والدعم الخارجي النفطي والامبراطوري، إلا التفجّع واستعطاف الناس واستجداء عزائهم؟ ماذا تقول عن رجل لم يبدر عنه ما يشير إلى تثقيف أو تراكم خبرة أو تبلور دراية؟ ماذا تقول عن رجل لم يجد إلا ابن عمته لتقديم المشورة له؟ ماذا تقول عن رجل لم يجد غضاضة في الانضمام إلى حاشية الأمير مقرن في زيارة للأخير إلى باكستان للتوسّط من أجل رجل السعودية نواز شريف؟ ظن ابن الشهيد أن اصطحاب رئيس الاستخبارات السعودية يزيد من مصداقيّته ومن أهليّته. ماذا تقول في رجل ترهّلت الزعامة على كتفيه بعد أربع سنوات من أحداث جسام؟
ويصعد الفتى إلى المنبر ويباشر العويل والنحيب. من يقول له إن أطفالاً في غزة فقدوا آباءهم وأمهاتهم وهم يدبّون على أربع؟ هؤلاء لم يترك لهم أهلهم ثروات وطائرات ويخوتاً. مات أهل هؤلاء دون أي يرِثوا زعامات وقصوراً. من يذكّر الفتى بأن مصابه ليس أعظم من مصاب الآلاف من شعبنا الذين يفقدون أعزّاءهم يوميّاً ويبقون بلا معيل؟ نحتاج أن نصارح الفتى لنسأله: إلى متى تظل خطبك (المكتوبة لك بتحريك تفصيلي) تعجّ بلغة الدم والثأر؟ هل يأتي يوم تعلن فيه انتهاء فترة الحداد التي لا تنتهي، أم أن الأمر منوط بطموحات العائلة السياسية التي منذ قدمت إلى لبنان على أجنحة آل سعود لم تحمّلنا إلا الديون والدموع ومجالس العزاء، بالإضافة إلى توريط لبنان في مؤامرات تبدأ في واشنطن وتمرّ في تل أبيب وتنتهي في الرياض على مكتب الأمير مقرن؟ لو كان هناك آجال لمجالس العزاء لانتظرناها لتنتهي، لكنه ها هو يعود بعد أربع سنوات ليطلّ علينا بالخطاب نفسه وبالانحدار الانتخابي نفسه، يساوي منافسيه بالقتلة ويلجأ إلى التحدّث عن الدم والقبور والويل والثبور. إذا كان يظن أنه يفرض فيلم رعب على اللبنانيّين فليعلم أن الفيلم يدخل في نوع المهازل لا
الدراما.
يحلم الفتى اليوم برئاسة الحكومة. يحاول أن يقنع الأمير مقرن بصلاحيته وقدرته على تنفيذ الأوامر. لكن السنيورة أثبت جدارة ونال إعجاب اللجنة الفاحصة في واشنطن (في عهد بوش) والرياض وفي عدد من عواصم... المنطقة المعنيّة بالشأن اللبناني. لكن الفتى يبدو ضعيفاً جداً، وهو مُحاط دائماً وفي كل لحظة برهط من المساعدين والمستشارين والمدلّكين والكتبة الذين يغيّرون العقائد مقابل مبلغ زهيد. وهناك فئة من المثقفين تسعى إلى التقرّب مقابل تغطية نفقات الاستشفاء والطبابة. ومستشارو الفتى لا يتركونه وحيداً مخافة الإحراج أو الفضيحة.
والفتى ـــــ مثله مثل أبناء الأثرياء ـــــ لا يواجه حقائق نواقصه وعلّاته. يقرأ عن نفسه في صحيفة مموّلة منه شخصيّاً. والبكّاؤون المحترفون في نشرته ـــــ وجلّهم من اليساريّين السابقين بالإضافة الى ثلّة من عديمي العقيدة والمبادئ ـــــ يكتبون له معسول الكلام. واحد من هؤلاء المتدرّبين في مدرسة فارس خشان للإعلام كتب له أنه يتمتّع بمواهب خطابيّة ـــــ عن رجل يقرأ خطباً سياسياً كما يقرأ الواحد فاتورة الهاتف. يستطيع الفتى أن يقرأ ما يكتب له المتملّقون المحترفون: هؤلاء الذين يوافقونه رأيه، أن مصابه أكبر من مصاب العامة، وأن دم الأثرياء أرقى من دماء العامة. لا يعلم ابن العائلة المدلّل أنه لا ينعم إلا بالثروة وما يتفرّع منها. كان والده يقول إن الله «أنعم» عليه بالثروة، وكأن الأثرياء مُصطفون من إرادة عليا. ولكن بماذا أُنعمَ على الابن؟
لو أن الفتى يسبر غور نفسه لوقف أمام المرآة وتساءل: مَن من أزلامه ومن أفراد الحاشية المُتعاظمة والمُتكسِّبة يبقى معه لو فقد ثروته؟ من من أبناء بيروت وبناتها سيصوّت له ويمشي وراءه لو فقد ثروته؟ هل يظن أن أحداً سيزوره لو فقد الثروة؟ هل كان سينادي أحدٌ بحياته، حتى غلاة التملّق من أمثال أحمد فتفت ومصطفى علّوش وكتبة النشرة اليوميّة؟ هل سيلتفت إليه أهالي الطريق الجديدة لو فقد ثروته؟ لو أنه يسأل نفسه هذا السؤال لتواضع قليلاً. لكن التأمل والتفكير العميق ليسا من شيم الأثرياء.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)