عثمان تزغارت
على خشبة المسرح، يؤدي دور «سفّاح المرافعات» (الليلة في بيروت)، وفي قاعات المحاكم يُلقّب بـ «محامي الشيطان». أما هو، فيفضّل لقب «الوغد المضيء» الذي اختاره عنواناً لكتاب يروي فيه بعضاً من تجربته (١٩٩٢). لا يكفيه أن يكون المحامي الأشهر في العالم، بل يحيط نفسه دوماً بهالة من الألغاز. على مدى نصف قرن، لاحقته تهم كثيرة من دون أن ينفيها: هل كان جاسوساً سوفياتياً، كما ورد في أرشيف «ستازي« (استخبارات ألمانيا الشرقية سابقاً)؟ وهل انخرط في تنظيم كارلوس وأُغرم بزوجته ماجدالينا؟ هل قاتل في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بإمرة وديع حداد؟ أم في صفوف «الخمير الحمر» في كمبوديا، إلى جانب السفّاح بول بوت، صديق شبابه أيّام الدراسة الباريسيّة؟ هل أصدر الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، حقّاً، أمراً باغتياله؟ ولماذا هدّدت زوجته جميلة بوحيرد بقتله في السبعينيات؟
تساؤلات كثيرة تراود ذهن أي صحافي يجلس قبالة جاك فيرجيس، في مكتبه الأشبه بمغارة علي بابا في باريس: كتبٌ بكلّ اللغات، وتذكارات من مختلف الدول ومنحوتات أفريقية وكمبوديّة يعشق اقتناءها. ومهما حاولتَ التحايل لجرّه إلى لعبة المكاشفة الصحافية، فلن تظفر سوى بابتسامته الساخرة الشهيرة. وإذا تكرّم بالردّ على سؤالك عن تهمة تطارده، سيزيد الأمر غموضاً. إذ يكرّر دوماً الجواب الزئبقي والنمطي ذاته: «لا أستطيع الجزم. لكنّ كل ذلك جدير بأن أعيشه، وقد يكون صحيحاً».
أبرز ما سيشدّك في أثاث مكتبه الفسيح، هو رقع شطرنج من مختلف الأحجام. ذلك أنّ الحياة لفيرجيس أشبه بلعبة شطرنج سيزيفية، بلا نهاية. حالما يخفّ وقع المفاجأة التي تحدثها خطوة يقدم عليها، يفاجأ الجميع بخطوة أخرى أكثر غرابة.
قبل ثلاث سنوات، سرق الأضواء في «مهرجان كان» لدى عرض فيلم باربيه شرودر «محامي الرعب» المستوحى من سيرته. تقدّم الرجل بقامته القصيرة والسيجار الهافاني الذي لا يفارقه، منافساً النجوم في توقيع «الأتوغرافات»... وفي أيلول (سبتمبر) الماضي، فاجأ الجميع، حين قرّر ـــ وهو في الـ 84 ـــ الصعود لأول مرة على خشبة المسرح، لأداء دور البطولة في مسرحية عن تجربته بعنوان «سفّاح المرافعات» Serial Plaideur، شاركه في كتابتها لوي ــــ شارل سيرجاك الذي أخرجها أيضاً مع ماري نيكولا. مونودراما قدّمها فيرجيس على «مسرح لا مادلين» الباريسي ويتجوّل بها عبر العالم وصولاً إلى بيروت، حيث سيحطّ رحاله الليلة في «ميوزكهول» (راجع مقالة نقديّة للزميل بيار أبي صعب ـــ ص ١٨).
يفتتح الممثل فيرجيس هذا العرض بمخاطبة الجمهور: «أيتها السيدات والسادة، أدرك جيداً أن بعضكم يتساءل، وهو يراني على خشبة المسرح، إن لم يكن الأجدر بي كمحام أن أبقى في قاعات المحاكم. ذلك أنّ كثيرين يعتقدون أن جدّية المحاكمات تتنافى مع خفة المشاهد المسرحية الاستعراضية. لكن مهلاً...». من هنا، ينطلق فيرجيس في مرافعة مشوّقة وطويلة ضد الطابع الاستعراضي للقضاء الذي يختزل المحاكمات، في الأنظمة الديموقراطية الغربية، ليحوّلها إلى معارك ليّ أذرع شخصية بين المحامين والقضاة. لافتاً إلى الخاسر الأكبر في هذا النوع من المعارك الكاريكاتورية: ليس المتهم الذي يُراد إدانته، ولا «المجتمع» الذي تسعى الأنظمة القضائية إلى حمايته من الجناة، بل الحقيقة التي لم تعد قيمة أو مرجعية للقضاة والمحاكم.
يستعيد فيرجيس هنا أطروحات مدوّية أطلقها في كتابه «الديموقراطية ذات الوجه الرذيل» (2003)، وفي مذكراته التي أصدرها قبل 15 سنة «لديّ من الذكريات، كما لو أنني عشتُ ألف سنة». في تلك المذكرات، فاخر بالألقاب المقيتة التي أُلصقت به، بدءاً بـ «محامي الشيطان» الذي وسمته به الصحافة الفرنسية، خلال دفاعه عن قادة حرب التحرير الجزائرية، في الخمسينيات، وصولاً إلى لقبه الأثير «الوغد المضيء» الذي أُطلق عليه عندما دافع عن المجرم النازي كلاوز باربي، وجعل منه فيرجيس عنواناً لأحد أشهر كتبه (١٩٩٢).
منذ نصف قرن، لم يكفّ «الوغد المضيء» عن إثارة الجدل. خالف الأعراف القضائية، ولم يكتف بأن يكون محامياً يرافع عن موكّليه، بل أصبح رفيق نضال يقاسمهم النشاط السري والعمل «الإرهابي» أحياناً. رافع عن جميلة بوحيرد عام 1958. وحين لم يُفلح في إنقاذها من حكم الإعدام، تزوّجها وقاده حبّه لها إلى الانخراط في «جبهة التحرير الجزائرية» مقاتلاً سرياً.
الأمر عينه تكرّر منتصف الثمانينيات، مع تنظيم كارلوس (منظمة الثوار الأمميّين) الذي أُوكل فيرجيس للدفاع عن اثنين من مقاتليه المسجونين في فرنسا، وهما زوجة كارلوس ماجدالينا كوب ورفيقهما برونو بريغيه. وإذا بـ «محامي الشيطان» يقع في غرام ماجدالينا، فيدخل في صلات سرية مع كارلوس في ألمانيا الشرقية، من أجل التخطيط لتهريب ماجدالينا من السجن!
جاهر فيرجيس بانتمائه إلى «جبهة التحرير الجزائرية»، على غرار مثقّفين فرنسيين في تلك السنوات القاتمة. لكنّه، في المقابل، يرفض الردّ ـــ بالتأكيد أو النفي ـــ على أي سؤال يتعلّق بانتمائه إلى تنظيم كارلوس. تاركاً المجال لتأويلات متضاربة: هل كان انتماؤه إلى تنظيم كارلوس ناجماً عن وقوعه في غرام ماجدالينا كوب؟ أم كان نابعاً من تقارب إيديولوجي بينه وبين كارلوس، وصلات شخصية نشأت بينهما منذ عرّف أحدهما إلى الآخر في لندن، أواخر الستينيات، الشهيد الجزائري محمود بوديا؟ هذا الأخير كان رفيق درب فيرجيس في «جبهة التحرير الجزائرية» وأصبح مسؤولاً عن كارلوس في شعبة العمليات الخارجية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (اغتاله الموساد في باريس، عام 1975رداً على عملية ميونيخ).
أما السر الأكبر في حياة «سفّاح المرافعات»، فيكمن في اختفائه الغامض سبع سنوات (1970 ــــ 1978). إذ عجزت أجهزة الاستخبارات الغربية التي كانت تقتفي آثاره عن تحديد وجهته. وما زال اللغز إلى اليوم بلا إجابة: هل التحق بالقتال في صفوف «الخمير الحمر» في كمبوديا؟ أم في شعبة «العمليات الخارجية» التابعة لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»؟ أم حلّ «ضيفاً على الثورة»، كما رجّحت بعض التقارير الأمنية؟ لكن أين: في فيتنام هو شي منه، أم في كوبا كاسترو، أم في صين ماو تسي تونغ، أم في جزائر بومدين؟ لا تعوّل على فيرجيس ليعطيك الإجابة: «كل واحد من هذه الاحتمالات مشرّف وجدير بأن أعيشه، وأتمنى لو أنه كان صحيحاً».
المؤكّد أن ابن المدرّسة الفيتناميّة والطبيب الشيوعي من جزيرة ريونيون على المحيط الهادئ، عاش طوال حياته في مناخ «المقاومة» ومواجهة الاستعمار. وخلال زيارته اللبنانيّة نتذكّر أنّه دافع يوماً عن أنيس نقّاش، وجورج إبراهيم عبد الله الذي ما زال يقبع في السجون الفرنسيّة رغم انتهاء مدّة محاكمته. هل يفاجئنا فيرجيس اليوم بمبادرة من النوع الذي يملك سرّه، في سياق إعادة الاعتبار (والحريّة) إلى المناضل اللبناني المذكور؟ نخرج من مكتبه الباريسي بجواب وحيد، هو الابتسامة الغامضة نفسها!


5 تواريخ

1925
الولادة في تايلند. وفي 1940، التحق بالمقاومة الفرنسية ضد النازية.

1958
دافع عن جميلة بوحيرد وتزوجها في السجن، وعاش معها في الجزائر حتى 1970 وأنجبا طفلين

1987
دافع عن النازي كلاوز باربي

2004
دافع عن سلوفودان ميلوزيفيتش أمام محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي، ووُكِّل للدفاع عن صدام حسين وطارق عزيز. لكن الاحتلال الأميركي منعه من لقاء موكليه أو المرافعة

2009
يواصل جولته مع عرض «سفّاح المرافعات» الذي يقدّم الليلة في«ميوزكهول» في بيروت