العنف ليس أعمى فحسب، إنه يعمي، يعمي البصر والبصيرة. إذا كان ‏هذا التوصيف ينطبق على العنف عموماً، بدون أن يغلق باب التأويلات ‏المتضاربة لدور العنف ووظيفته في التاريخ والإيقاع، فإنه ينطبق ‏تخصيصاً على العنف الأهلي. فهذا النوع من العنف، أكانت صفته دائرةً ‏على العِرق أو الطائفة أو المذهب أو اللون أو العصبية القرابية...، لا ‏يبقي ولا يَذَر
حسن الشامي *
يمكن العنف الأهلي أن يندلع منطلقاً من انقسام حول قضية قد تكون ‏سياسية أو اجتماعية أو مطلبية، إلا أنه عندما يستتب يصبح هو نفسه ‏قضية قائمة برأسها. لا يعود يحتاج إلى قضية تكون مادة النزاع ومداره. ‏فهو يتناسل من مكامن نفسه مادة يغذيها ويتغذى منها في آن واحد. وهذا ‏ما علمه اللبنانيون وذاقوه على مدى سنوات طويلة وحارقة عركت بلدهم ‏‏«عرك الرحى بثفالها»، على قول الشاعر الجاهلي ناظراً من أعلى ‏سنواته الثمانين إلى حروب القبائل العربية وعبثيتها.
العنف الأهلي لا يكتفي بتقويض النسيج الوطني أو ما يبقى منه في ظل ‏لعبة الطوائف وسعيها المحموم، والملتبس بالضرورة، للمطابقة بين ‏الطائفي والوطني، بين إقليم الجماعة والإقليم المشترك. لا يكتفي العنف ‏الأهلي بذلك، إذ إنه يستولي على معنى السياسة ومدارها جاعلاً من ‏الغَلَبة العارية مادتها وآفتها الوحيدتين أو شبه الوحيدتين. ويحتاج هذا ‏بطبيعة الحال إلى تصوير النزاع والانقسام على أنه حرب الكل (الكل ‏الأهلي الطائفي، المذهبي، وإقليمه) ضد الكل الآخر، أي الشريك في ‏الوطن من حيث المبدأ. ما يعنينا أكثر هو أن منطق الغلبة والمغالبة ‏يستنهض على إيقاع استنفار للمشاعر والأحكام والصور الجاهزة، وجهاً ‏لا يستهان به من وجوه الثقافة الاجتماعية ونسيج العلاقات الأهلية ‏وفضائها المحلي الدائر على الحارة والحي والمحلّة والساحة. وهو وجه ‏يرقى إلى ما قبل العهد العثماني ضارباً بجذوره في بنية التنظيم ‏الاجتماعي المديني وشبه المديني. نعني: الفتوّة.
على أننا لن نخوض الآن في تاريخ الفتوّة ووظيفتها في اجتماعيات ‏الحاضرة الإسلامية وطوائفها الحرفية، ولا في التحوّلات التي شهدتها ‏لدى انتقالها من الطرق الصوفية إلى طوائف الحِرَف والتجار الصغار، ‏واستواء هذه الطرق وهذه الطوائف أطراً اجتماعية تقوم على تضامن ‏أبنائها وتماسكهم، عاقدين الولاء والمبايعة لشيخ الطريقة أو الحرفة. نعلم ‏أن تعبيرات الفتوّة وتمثيلاتها قد تبدّلت في العهد العثماني، وخصوصاً في ‏القرن التاسع عشر مع تحديث الإدارة والجيش وذوبان فرق الانكشارية ‏ومعها ميليشيات الأحياء المدينية (المعروفة باسم الأوجاق) المتصلة ‏بطوائف الحرف التي راح اقتصادها واجتماعها يتعرضان للذواء والتخلُّع ‏بسبب ازدياد انتشار البضائع الأوروبية ومزاحمتها للإنتاج الحرفي ‏التقليدي. هكذا، أي في القطاعات المتزايدة التهميش، راح معنى الفتوّة ‏المتحدّر من الطرق الصوفية والدائر على نوع من الفروسية الروحية ‏المستندة إلى مواثيق شرف تتعهدها طقوس «السليك» و«الشدّ» في هذه ‏الطرق وفي الطوائف الحرفية، راح يتختلط بـ«القبضنة» و«البلطجة» ‏‏(نسبة إلى ظاهرة القبضاي الحديثة نسبياً) انطلاقاً من الوظيفة الأصلية ‏للفتوّة وهي توفير الحماية لأهل الطريقة والذود عن حياتهم، المادية ‏والرمزية. ‏

بين الحرب والسياسة

قد يكون هذا التمهيد مفيداً لمراجعة ما حصل خلال الأيام الثلاثة من ‏المواجهات في بيروت والجبل، التي أودت بحياة قرابة المئة قتيل ‏وعشرات الجرحى، وكلهم لبنانيون من ذوي الأرحام والقرابة والأهل ‏والجماعة. وقد أفضت هذه المواجهات إلى مؤتمر الدوحة مسبوقاً ببيان ‏الفينيسيا ومتبوعاً بانتخاب الرئيس التوافقي الجنرال ميشال سليمان. ‏مراجعة ما حصل أمر ضروري، ليس فحسب لأنه يجيز النظر في حدود ‏التسوية التوافقية بين الموالاة والمعارضة، وهي تسوية يصفها كثيرون ‏بالهشاشة، بل كذلك لأنه يستنهض وجهاً عنفياً أهلياً من شأنه إذا استشرى ‏واستُغلّ (وفي الأمر فحولة) أن يختزل السياسة والحياة السياسية إلى ‏مسرح للفتوّة.‏
لقد أقدم حزب الله على مجازفة كبيرة بلجوئه إلى الحسم العسكري على ‏الأرض، معرّضاً رصيده الوطني إلى التآكل والتبدُّد في سديم عنف أهلي ‏مفتوح. ثمّة بالطبع مَن يرى أن الحزب فعل ذلك «مُكرهاً أخاك لا ‏بطل»، إلا أن الضربة المسلحة هذه كانت استباقية وضرورية لتسريع ‏التسوية تفادياً لما هو أسوأ. وقد حصلت التسوية بالفعل على حافة ‏الهاوية، وجرى الحوار وعيون اللبنانيين تحدّق في الهاوية التي يمكنها أن ‏تبتلع الجميع. على أن التباس الصفة العسكرية ـــــ الأمنية بالصفة ‏الأهلية في بلد الجماعات المتغالبة يجيز قراءات أخرى للحدث قد لا ‏تكون السياسة الفعلية وعقلانيتها في رأس أولوياتها وشواغلها. فحتى لو ‏شئنا تصديق تصريحات مسؤولي الحزب عن «التدبير المحدود» ‏و«العملية الجراحية الموضعية والنظيفة»، فإن الالتباس المشار إليه، ‏مشفوعاً بالقراءة الأهلية، الطائفية والمذهبية والمناطقية المحلية، يجعل ‏هذه التصريحات قليلة المردودية والاستقبال. أضف إلى ذلك أنه مهما ‏كانت انضباطية عناصر حزب الله عالية ومدروسة فإن هناك دائماً، في ‏هذا النوع الملتبس من المواجهات، شيئاً يفلت ولن يكون كافياً لا الاعتذار ‏ولا القول إنها «تجاوزات». فالقراءة الأهلية تلتقط وجه العنف الأهلي ‏وتنفخ فيه بحيث يصبح الشطّار والعيّارون (أي ما نسميهم اليوم بالزعران ‏والفتوّات) هم أسياد المشهد والحدث. وجاء الاعتداء على مؤسسات ‏‏«المستقبل» الإعلامية إشارةً لنزوع إلى فتوّة تسعى إلى إسكات الطرف الأهلي الآخر وكمّ ‏أفواهه.‏
التضامن مع هذه المؤسسات والعاملين فيها ليس واجباً أخلاقياً ومهنياً ‏فحسب، بل هو كذلك وخصوصاً، واجبٌ سياسي. لا حاجة للتذكير ها ‏هنا، بعبارة فولتير الشهيرة عن عدم موافقة الآخر على رأيه مع الدفاع ‏المستميت عن حقه في التعبير عن رأيه المخالف. ولا حاجة أيضاً، في ما ‏يخصّ التراثيين هذه المرّة، للتذكير بعبارة الإمام مالك مع تجويز مطّها، ‏استطراداً وتوسّعاً: «ليس منّا مَن لا يردّ ولا يُردّ عليه». إدانة الاعتداء ‏على إعلام «المستقبل» واجب عقلاني، جمهوري وديموقراطي، بغضّ ‏النظر عن رأينا في القيمة الإعلامية لهذه المؤسسات، بل حتى بجملة ‏المشهد الإعلامي اللبناني «المرؤوع» (دمجاً للمرئي والمسموع) أو ‏‏«السمري» (دمجاً للسمعي والبصري). هذا المشهد الإعلامي لا مثيل له ‏في العالم. إنه «بازار» حقيقي بسوق عكاظ، ساحة للمنازلة واستعراض ‏المهارة في الهجاء والقدح والسّباب. الجهاز الإعلامي هو أكثر من آلة ‏تعبئة وتحريض وحزازة ونكاية. إنه آلة لتصنيع الكراهية وتربيتها. وهذا ‏ما يجعل الوجه الأبرز من وجوه الخدمات الإعلامية اللبنانية المشكورة، ‏هو وجه الاشتباك الكلامي المتصل. إنه مسرح مبارزة وتحديات، مسرح ‏فتوّة. وفتوّة الإعلام تتوازى مع فتوّة السياسة. وإذا كان أحد الفلاسفة ‏الفرنسيين (وهو ميشال فوكو) اقترح قراءة لاستراتيجيات السلطة ‏وعلاقاتها من خلال قلب المعادلة الشهيرة لعالِم الحرب البروسي ‏كلاوزفيتز والقائلة بأن «الحرب هي مواصلة السياسة بوسائل أخرى» ‏بحيث تصبح: السياسة هي مواصلة الحرب بوسائل أخرى، فإن مثل هذا ‏القلب يكاد يكون صارخاً في عرف طوائف سياسية تتصرف كما لو أنها ‏أمم ناجزة. وقد رأينا، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عدداً لا ‏يحصى من المناورات والتقلّبات والتكتكات، ومن تراشق السياسيين ‏والإعلاميين بكل شيء تقريباً، بما في ذلك الدستور وتأويلاته، مما يجيز ‏الظن بارتسام السياسة مداراً لحرب مواقع والتفافات وتطويقات مصحوبة ‏بصفقات وتسويات ومفاوضات هي أقرب إلى دبلوماسيات الفتوّة وعنفها ‏البارد إذا جازت العبارة.‏

ليست غزوة

قد يكون هذا كله صحيحاً ومخيفاً. بل هو يخيف لأنه صحيح. على أن ‏التوزيع العادل للمسؤولية عمّا حصل ويحصل يقتضي، أولاً، توخّي الدقة ‏في استخدام الكلمات والمصطلحات، ويقتضي، ثانياً، وضع الأمور في ‏سياقها المخصوص. في ما يخص لغة التشخيص والتوصيف، نعتذر ‏مسبقاً من فتوّات الإعلام وبعض الثقافة للقول إن ما حصل لم يكن انقلاباً ‏ولا اجتياحاً ولا غزواً (أو غزوة). ولا يرى هذا القول إلى التقليل من ‏خطورة ما حصل في بيروت وفي الجبل، على تفاوت دلالة المواجهات ‏فيهما، بل على العكس. ذلك أن الوجه الأبرز لهذه الخطورة هو أنه يضع ‏وجهاً لوجه سكان الحي الواحد والبناية الواحدة، والطابق الواحد، وفي ‏حالات معيّنة، سكان البيت الواحد. على أن هذا، على فداحة تهديده بتبديد ‏تقاليد من التعايش والاختلاط الاجتماعي، ينزع صفة الاجتياح أو الغزو ‏عن المواجهات (غير المتكافئة) التي شهدتها شوارع بيروت. ذلك أن ‏صفة الغزو أو الاجتياح تفترض رسوخ الصفة «البرّانية» الخارجية ‏والطارئة للجسم والقوة الغازيين، مقابل رسوخ الصفة «الجوّانية» الداخلية ‏لمتلقّي الاجتياح وضحاياه. وهذا ما ينطبق إلى حد كبير على مواجهات ‏الجبل نظراً إلى قوة التطابق بين هوية الجماعة اللبنانية خصوصاً، وهو ‏تطابق معهود في ثقافات الأرياف والجبال اللبنانية خصوصاً، ‏والمتوسطية عموماً. وهذا ما لا ينطبق على بيروت. والكلام الصادر عن ‏بعض نواب «تيار المستقبل» ورموزه وفتوّات إعلامه، والمتضمن، ‏تلميحاً أو تصريحاً، إحالة قوام العاصمة إلى هوية أصلية فئوية أو ‏مذهبية، هو كلام يلامس العنصرية ومن شأنه أن يقضي، شعورياً أو ‏لاشعورياً، على الرأسمال الرمزي الذي يمنح بيروت امتيازها الاجتماعي ‏والتاريخي والثقافي. بعبارة أوضح: كل الذين يقيمون ويعملون ويقترعون ‏ويدفعون الضرائب والمستحقات السكنية والبلدية ويموتون، كل هؤلاء هم ‏أبناء بيروت، بمن في ذلك الذين يدلون بأصواتهم في المدن والجبال ‏والأرياف التي يتحدّرون منها، بمقتضى قانون انتخابي يحتاج بالتأكيد إلى ‏إعادة نظر. هوية بيروت هي ما صنعه ويصنعه سكانها، سلباً أم إيجاباً. ‏وهي، بأرمنها وأكرادها وسريانها وسنّييها وشيعييها وأرثوذكسييها ‏ودروزها وموارنتها والمجنسين من عهد قريب فيها، عاصمة كل هؤلاء ‏ومدينتهملا يرمي هذا القول إلى قصر الهوية المركّبة لبيروت على تعريف مجرد ‏و«مواطني» لسكان المدينة واختزال المسارات الاجتماعية والفردية التي ‏يتألّف منها تاريخ المدينة، سكاناً أو أحياءً وأهلاً، والتحوّلات التي ‏عرفها. بل يرمي بالضبط إلى الدفاع عن وجه التركيب المشار إليه ‏والحاضن للتنوّع والتعددية. ونحن نعلم أن التعددية في بلد الطوائف ‏الكثيرة يمكنها أن تصبح عنواناً للتشظّي، بحيث تتحول المدينة إلى ‏مجموعة من الجزر الأهلية، الطائفية والفئوية والمذهبية، فلا يبقى لها ‏سوى أن تكون الجمع الحسابي لهذه الجزر، المتهادنة حيناً والمتصارعة ‏حيناً آخر. مع ذلك ينبغي تثبيت هذه التعددية ومفاعيلها كأفق «جمهوري» ‏وعقلاني لجملة المسارات المضطربة والحافلة بشتى الالتواءات ‏والتبدّلات التي يؤرخ بها سكان بيروت لصفتهم المدينية وأحوالها. فلنقل، ‏ما دمنا في معرض لغة تشخيص ما جرى في السابع والثامن ‏من أيار وعباراته، إنه طلقة إنذار أو استعراض قوة أو محاولة عنيفة لتسريع ‏التسوية وتوليدها. لكنه ليس انقلاباً ولا غزواً ولا اجتياحاً. ‏

سياق المواجهاتفي الثاني من أيار (مايو) 2008 أعلن أحد أبرز أقطاب قوى 14 آذار، ‏النائب والزعيم وليد جنبلاط، أن لديه نسخة عن شبكة الاتصالات ‏الخاصة بحزب الله، وأن هذه «الشبكة مدّت على الأرض وهي عسكرية ‏وتستخدم لأسباب تجارية أيضاً». وقال جنبلاط في ندوة سياسية أقيمت ‏في اليوم ذاته في المختارة إن ثورة 14 آذار تريد بسط سلطة الدولة على ‏كل الأراضي اللبنانية، «لكن كيف السبيل إلى قيام الدولة عندما يوجد ‏حزب يخرج عن سلطة هذه الدولة؟». وتطرق إلى حادثة المواجهة بين ‏متظاهرين في الضاحية احتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي وعناصر الجيش، فرأى أنه اعتدت على الجيش عناصر ‏مدنية واضطر الجيش إلى الرد، «طبعاً لا أدافع هنا عن إطلاق النار، ‏لكننا في الوقت نفسه لا نعيش في سويسرا أو السويد بل في لبنان، ‏اضطر الجيش إلى إطلاق النار على المدنيين صحيح...». ومع أننا لسنا ‏في سويسرا أو السويد، فقد أحال وزير الاتصالات اللبناني مروان حمادة، ‏في اليوم ذاته بحسب الصحف، ملف الشبكات الهاتفية غير الشرعية إلى ‏مجلس الوزراء. ‏
وفي اليوم التالي، أي في الثالث من أيار، عقد النائب وليد جنبلاط مؤتمراً ‏صحافياً في المختارة أعلن خلاله سلسلة من المواقف والأمور الخطيرة ‏في توجّه تصعيدي غير مسبوق. فهو اعتبر أن طريق المطار بات خطراً ‏على الجميع، وأن جهاز أمن المطار مخترق وتابع لحزب الله، وحذّر ‏الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله من أن الأمر سينقلب على ‏رأس الجميع، كما طالب بوقف الرحلات الجوية للخطوط الإيرانية إلى ‏بيروت وطرد السفير الإيراني من لبنان وإقالة رئيس أمن المطار. ‏وكشف النائب جنبلاط في بداية مؤتمره الصحافي عن أن «المصدر الذي ‏أعطى جريدة النهار وثيقة أساسية ومهمة عن موضوع الكاميرات في ‏باحة فيها مستوعبات في محاذاة المطار، التي من خلالها تمكّن ‏من مراقبة المدرج 17، وهو نفسه الذي أرسل إليّ الوثيقة بالتفصيل. ‏وهو مصدر رسمي لن أقول مَن هو لكنها مراسَلة رسمية بين وزارة ‏الدفاع واستخبارات الجيش اللبناني تطالب رئيس جهاز أمن المطار (العميد ‏وفيق شقير) بالتصرف حيال موضوع الكاميرا التي كانت موجودة حتماً ‏وربما أُخفيت، أو أنها موجودة عبر وسائل وطرق أخرى». وبدون أن ‏يراوده احتمال مساءلته عن قانونية تسريب وثيقة أمنية وسرية إليه وإلى ‏صحيفة «النهار»، كما يفترض في دولة قانون ومؤسسات لا تتوزع ‏أجهزتها على دويلات الطوائف، خلص النائب جنبلاط، بحسب «النهار» ‏الصادرة يوم الأحد في 4 أيار 2008، إلى ما يلي: «يتبيّن لنا كيف أن ‏جهاز أمن المطار بكل معالمه في الأمن العام وربما الدرك والجمرك ‏وربما بقائده، مخترق، وهو تابع لحزب الله، ولا قيمة للإجراءات التي ‏تتخذ بناءً على القرار 1701 في ما خص مراقبة البضائع التي تأتي عبر ‏الكاشف الإلكتروني «السكانر» أو غيرها إذا كان رئيس الجهاز وغالبية ‏الأفراد أو الضباط أو الرتباء تابعين لحزب لا يعترف بالدولة». ولم ‏يكتفِ الزعيم المحنّك بتشخيص الاختراق. فهو، رداً على سؤال عن ‏احتمال أن تكون المستوعبات تابعة لشركة «جهاد البناء»، رأى أن من ‏أبسط الأمور إزالة هذه المستوعبات من حرم المطار، «ثم وقف الطيران ‏الإيراني إلى بيروت، لأنه في هذا الطيران ربما تأتي الأموال والمعدات، ‏وطرد السفير الإيراني من لبنان، ثم إقالة فورية لقائد جهاز أمن المطار ‏وكل العناصر المشبوهة، وهذه مسؤولية وزارة الداخلية...».
لا نعلم إذا كان وجه الإخراج المسرحي للمؤتمر الصحافي، أي التلويح ‏بالوثيقة الأمنية السرية، وتثبيت خريطة كبيرة على واجهة المنصّة تظهر ‏شبكة خطوط الاتصالات لحزب الله «على امتداد الوطن اللبناني ‏وتستطيعون رؤية تكوين دولة حزب الله»، لا نعلم إذا كان يخاطب جهات ‏ومراكز قرار تقع ما بعد ما بعد بيروت. ومع أن تصريحات ‏جنبلاط ومواقفه جاءت تصعيدية على نحو غير مسبوق، وانطوت على دعوة ‏صريحة للقيام بحملة تطهير وتنظيف ومحاكمة تبدو «المكارثية التفتيشية» ‏إزاءها مزحة أو قطعة حلوى، فإنه كان يمكن هذه التصريحات أن تبقى ‏في حدود السجال الإعلامي المعهود منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق ‏الحريري.
كان يمكن ذلك، على صعوبته، لولا صدور القرارين العتيدين، إثر جلسة ‏صاخبة وعاصفة، عن الحكومة اللبنانية التي يطعن في شرعيتها ما ‏يقارب نصف اللبنانيين. لقد قيل أثناء حوادث السابع والثامن من أيار، ‏وبعدهما، إن القرارين القاضيين بإقالة رئيس جهاز أمن المطار وبإحالة ‏التحقيق في موضوع شبكة الاتصالات على الجيش اللبناني والمؤسسات ‏الأمنية، لم يكونا مطروحين للتنفيذ. وهنا نسأل، بدون مبالغة: لماذا تُقدِم ‏حكومة تنسب لنفسها كامل الشرعية الوطنية والسياسية والشعبية، على ‏اتخاذ قرارين مع وقف التنفيذ؟ وما هو مصير الجيش والمؤسسات الأمنية ‏في حال القبول بزجّه في هذا الموضوع؟ وإذا كان القراران يستندان إلى ‏مبدأ معاقبة موظفين لأنهم تابعون لحزب لا يعترف بالدولة بل يخرج ‏عنها وعليها، ناهيك عن التعرّض لشبكة خطوط اتصالات لطرف، اسمه ‏‏«المقاومة» أو حزب الله، تحتضن وجوده وعمله بيئة شعبية عريضة، ‏وهو منخرط في حوار وطني واسع بشأن عمله وسلاحه، جاز السؤال، ‏ليس بدون مبالغة مقصودة هذه المرّة: لماذا لا تطلب الحكومة اعتقال قادة ‏حزب خارج عن القانون وعن الدولة؟
قصارى القول إن صدور القرارين الحكوميين كان، بالنظر إلى جملة ‏العوامل المشار إليها، وبالنظر خصوصاً إلى حدّة الاصطفاف اللبناني ‏وصراعاته على التموضع الإقليمي مشفوعاً بمسارات الجماعات اللبنانية، ‏كان بمثابة إعلان حرب. لقد كان معلوماً، منذ صدور القرار الدولي ‏‏1559، أن نزع سلاح المقاومة، أو حزب الله إذا شئتم، هو خريطة ‏الطريق المقدَّمة أميركياً إلى اللبنانيين كي يرتاحوا، ليس من الجار ‏الإقليمي فحسب، بل من «وطنيتهم» كفريق مقبل، عاجلاً أو آجلاً، على ‏التفاوض القاسي مع العدو الإسرائيلي.
‏«لا تناقض بين مشروع الدولة وسلاح المقاومة»، بحسب ما قال، بحق، ‏وليد جنبلاط بعد بضعة أيام من حوادث أيار المشؤومة. والحال أن هذه ‏الحوادث هي، في معنى ما، حصيلة خفّة سياسية أفصحت عنها قرارات ‏الحكومة عبر تهديدها للوجود السياسي بالذات لحزب ولجماعة من القوى ‏ذات الشرعية الشعبية الواسعة. وهذه الخفّة هي التي تجعل من إرادة ‏الفعل السياسي أشبه بالفتوّة ومسرحها. ويمكن تطبيق هذه المقولة على ‏غير بلد عربي أو حتى غير عربي. هذا في الوقت الذي يعلم فيه القاصي ‏والداني أن موضوع سلاح المقاومة شائك لاعتبارات كثيرة. وكانت قوى ‏‏14 آذار وحكومتها تعلم، وخصوصاً بعد حرب تموز، أن نزع السلاح هذا ‏‏«دونه شيب الغراب»، على ما تقول العرب عن التعذّر أو عن الصعوبة ‏الشديدة لتحقيق أمر ما.‏

‏* كاتب لبناني مقيم في باريس