فايز فارسإن تاريخ لبنان الجمهورية البرلمانية الديموقراطية محشو بمظالم واضطهاد وتنكيل مارسته الأجهزة العسكرية والأمنية بأوامر تلقتها من طبقة سياسية حاكمة في حق خصومها... إلى درجة نستطيع معها القول إن تلك الأجهزة لم يكن يهمّها يوماً المحافطة على النظام القائم، بل توفير الحماية الكاملة لطبقة سياسيّة حكمت وتجبّرت وقمعت كل معارض لها أو معترض على سياساتها التقسيميّة.
يوم الثلاثين من آب 2005 هو في الحقيقة يوم انقلاب من نوع آخر قرّرته أكثرية سياسيّة حاكمة في حقّ رؤساء أجهزتها الأمنية بعدما كلّفت من أجل تنفيذه سلطات خارجية أجنبية دوليّة. وهذا يذكّرنا إلى حد ما بأحداث فيلم «حالة حصار» لكوستا غافراس، مع العلم بأن التركيبة السياسيّة الاجتماعية اللبنانية لا تشبه أبداً أي تركيبة أخرى قائمة في بلد يعتزّ زعماؤه بنظامه الديموقراطي البرلماني الحرّ حتى الغثيان.
وفي وقت من الأوقات، بسبب قراءات عديدة ومطالعات مستفيضة ومشاهدات هوليووديّة، دفعتني مخيّلتي إلى توقّع حصول انقلاب عسكري شعبي مضاد يُنفَّذ فور خروج مجموعة الضباط الأربعة المحتجزين منذ ثلاث سنوات وثمانية أشهر إلى الحرية. لكن ظنّي خاب وتبخّر عندما أدركت أمرين أساسيين كانا سببين كافيين وافيين وكفيلين بإفشال أو إسقاط أي محاولة انقلابية ممكنة:
ـــــ يكمن السبب الأول في وجود العماد ميشال سليمان في سدة الرئاسة الأولى وما يتمتع به من قدرة وحنكة وحكمة وخبرة في إدارة الأزمات واستيعابها.
ـــــ يستند السبب الثاني إلى مستوى الوعي المهني لدى الضباط الأربعة المحرّرين وقدرتهم الفائقة على تقبّل وتحمّل هذا الكم الهائل من الاتهامات والإذلال، رغم معرفتهم بكل الحقائق المرّة، وبخاصة تلك المتعلقة بطبيعة الأمور والدوافع التي أدّت إلى وقوع كل هذه الجرائم الشنيعة في حق لبنان واللبنانيين قاطبة.
كارثة كبرى هي عملية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما تلاها من عمليات اغتيالات وتفجيرات لم تكن تخطر إلا في بال من قرّر وخطّط ونفّذ وحقّق وصدّق. وفضيحة كبرى هي الطريقة التي تمّ بها التعامل مع الحدث الزلزال وما تلاه من أحداث لا تقل عنه فداحة. وكان على الشعب اللبناني المغدور أن يغرق في التناقضات. وارتفع الصوت عالياً يطالب بالحرية والسيادة والاستقلال وإحقاق الحق عدالة ومساواة، بينما قرّرت الحكومة آنذاك تسليم عقلها وقلبها وذقنها وأمنها وناسها إلى مراجع خارجية وسلطات أجنبية، وإن اتسمت بطابع دوليّ. وجاءت النتائج كلها مخيّبة للآمال، ما دفع بالمواطن العادي إلى التساؤل على سبيل المثال لا الحصر:
لماذا لم تستمع لجنة التحقيق الدولية رسمياً إلى نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام المقيم في أوروبا ومواجهته باللواء جميل السيد؟ لماذا تمّ توريط كل هذا العدد الكبير من الإعلاميين الذي أدّى إلى ضرب حرّية الصحافة والإعلام في لبنان حتى إشعار آخر؟
وجاء الجواب: وجد وزير العدل ضالته في المادة 108 التي تجيز التوقيف الاحتياطي إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى وشاء عبده قاضي التحقيق المأمور، فقرّر إجراء تعديل عليها وتحديد مدة التوقيف بفترة زمنية لا تتجاوز نصف السنة قابلة للتمديد مرة واحدة فقط، أي ما مجموعه 365 يوماً. يعني «الحق كلّو على 108». هنا لا بد لنا من التفكير بعشرات الموقوفين الذين سيُسَرَّحون بعد أيام، أي قبل السابع من حزيران المقبل، لأن «دق المحبوسة» محشور. كذلك صار كل مظلوم مستقبلي يعلم أن عليه أن يستعد لتوقيف احتياطي لن يتعدّى 365 يوماً. يعني هانت يا شباب... هيي سنة وبتمرق وما بتحسّو فيها.